الأربعاء، 11 مايو 2011

الحماسة في شعر المتنبي

الحماسة في شعر المتنبي
بقلم: صلاح داود

إذا كان مفهوم الحماسة يثير في الذهن من أول وهلة المعاني الحافّة بالحرب والقتال فإن الاقتصار على ذلك يغلق منافذ أخرى ذات أهميّة يمكن أن توضّح أبعاداً أكثر اتساعاً تشمل مفاهيم الشدّة والشجاعة والقوّة بما قد لا يتصل إطلاقاً بجوّ المعارك والقتال. وهذا من شأنه أن يجعل من المسألة قضيّة واسعة تتطلب من الدارس للشعر العربي أن يستقرىء أكثر من توجّه في هذا النطاق.
وقد يتوهّم البعض منّا أن الغرض البارز في موضوع الحماسة إنما هو شعر الفخر بالأساس وربّما يتعدّاه إلى شعر المدّح. غير أن المنطق المتأني يمكّن من تبيّن أنّ الحماسة قد تكمن حتى في شعر الغزل بماهو استعراض من بعض الجوانب لحال العاشق الذي يفرض على نفسه الجهاد والصبر والمكابرة ومواجهة الصعاب للوصول الى متطلبات رحلته الوجدانيّة. ويكفي أن نذكّر في هذا السيّاق بتقديم عنتره نفسه في صورة البطل الأرقى الذي يفرض على المرأة الإعجاب به والاحترام.
وتبعاً لهذه الملاحظات يتطلب منّا العمل أن نتجاوز دراسة محور الحماسة عند المتنبي أو أبي تمام أو ابن هانىء أو سواهم بعيداً عن النمطيّة الجاهزة والتبويب الاعتباطي الحاضر نتيجة أحكام استباقيّة تتحكم فيها مواقف ما قبليّة.
فأين تجلّيات الحماسة عند المتنبي؟
وماهي الدواعي التي عزّزت إبرازها وغلوّها أحيانا في شعره؟
إن من أهمّ المظاهر التي تتجلّى من خلالها حماسة أبي الطيب سمة التمرّد والتغنّي والتسامي والتعشق للقوّة في كلّ مظاهر الكون بما يجعل من الإنسان يستمدّ كل معاني وجوده من هذه السّمات.
وقد تجسّدت هذه الرؤية المتسامية في تحميس الذّات وتحميس الآخر. لذلك نرى أنّ شعر المتنبي الحماسي يكشف عن موقف الشاعر من نفسه وما يحمّلها إيّاه من متاعب جمّة وعن موقفه من العالم الخارجي وما يشترطه فيه وجوبا من ضرورات حتى يستطيع التناغم معه والتعايش. وهذا الآخر قد يكون ذاك الذي عاصره المتنبي أو حتى القارىء في كل زمان ومكان.
إنّ أبا الطيب يتعامل مع ما حوله بكثير من الرفض والثورة. فليس من الهيّن عليه أن يتقبّل أمراً لم يتوافق مع أفكاره ومبادئه ونظرته الى الحياة. فلقد رسم لنفسه حدّا لا أقل منه، ويظهر ذلك في أكثر من مقام وأكثر من غرض وفي جلّ مراحل عمره: في بداية تجربة الحياة، وبعد أن ضرب في الأرض وخبر البلاد والعباد.
فالحميّة اخترقت خلاياه وتخلّلت عقله وتغلغلت في وجدانه حتى بدا الصبي أبو الطيب قد قفز على عمره وكسّر النمطيّة الجاهزة عن معالم الطفولة. فقد توطّنت فيه كبرياء العظماء وقوّة الرجال وصلابة الفحول وهو ما يزال في سنّ الصبى بعيداً جدّا عن التبكير تجاه أفكار الكبار:

أيّ محـلّ أرتقـي      أي عظيـم  أتّـقي
وكلّ  ما قد خلـق      الله ومـا لـم يخلق
محتقر في همّـتي       كشعرة في مفـرقي

تبدو قعقعة القاف مدوّية، وهو الصوت الحلقي المزدوج الشدّة والحرف الحلقيّة الأخرى مزيجاً من الأنين (الهمزة مرّتين) (ثم مرّة) في البيت 1 ومزيجاً من الاختناق (العين والخاء والحاء..) حتى بدا الكون مبعث اشمئزاز يستفزّ مجرّد العيش فيه أنفة المتنبي ويتوّقه في تحمّس باد صوت الأعلى والأعظم والأمثل والنظر في شعر الصبي يوضّح بجلاء أنها ليست مسألة عرضية تلك التي تشغل المتنبي، ففي باطنه ما يدفع الى الحلم المنشود تلبية لما يرومه «الطفل الكبير» حتى كأنّ أبا الطيب ولد أصلاً كبيراً وسيظلّ يحدّد لنفسه عبر مراحل حياتها علامات السير وأهداف الرحلة: "إن أكن معجباً فعجب عجيب" لم يجد فوق نفسه من مزيد وهذا الطفل الأعجوبة هو الذي سيلزم أبا الطيب بأن «يفترش» «صهوة الحصان» ويغامر الى عالم قدسي خارق للموجود صوب النجوم:
مفرشي صهوة الحصان ولــكـنّ قميصي مسرودة من حديد

وليس إلا بهذا النهج الحركي يتمكّن المتنبي من إدراك الهدف:
إذا غـامرتَ في شرفٍ مرومٍ            فــلا تقنع بما دون النجـوم

وهو يعلم أنّ مثل هذه الرحلة ليست بالهيّنة، ولكن لا اختيار لمن ارتأى لنفسه طريقاً مخصوصة به:
وإذا كـانت النفـوس كبـاراً           تعبت في مـرادها الأجسـام

فالمتنبي يقسو على نفسه يحمّلها من المشاق ما لا طاقة للإنسان العادي به وكأنّه يروّضها على ماهو من مشمولاتها أو من المقتضيات التي يحب أن تصبح جزءاً من مكتسباتها، مرغماً لها على أن تكسّر الموروث.
وبهذا المنطق المتشدّد مع الذات، كأنّ المتنبي يعلم كل ذي نفس مهزوزة أو ضعيفة أنّ السبيل الى الإنسانية في الإنسان لا تستوجب تردّداً أو تحتمل تشكيكا:
إذا اعتـاد الفتى خوض المنايا          فأيسر مـا يمرّ به  الوحـول
يهون علينا أن تصاب جسومنا          وتسلم أعـراض لنا وعقـول

فالتضحية بالجسد/ بالمادّة مهما عظمت هي السبيل الرئيسي لنيل الشرف الأخلاقي والعلمي.
إنّ المتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر يتقابسان نار السيّادة ولذة الشموخ. وبذلك يتحوّل المتنبي رائداً يحمّس النفوس الخائرة والمستخفين بالمنزلة العليا على أن يراجعوا مفاهيمهم للكون. فالحماسة هنا تبدو أكثر من مجرّد حالة وإنما هي موقف وقرار ومسؤولية وهي ليست أمراً اختياريّا أو عرضيّاً ظرفياً، بل هي سمة قارّة أساسيّة، إذ انتفت انتفى معها كنه الوجود وسرّ الحياة.
لذلك حمّل المتنبي نفسه أعباء الحركة وحرّم عليها الركون الى الراحة لأن الراحة أصلاً هي التعب السلبي، والتعب هو الراحة الإيجابيّة.
يقـول لي الطيب: أكـلـت شيئا؟       وداؤك  في شـرابك والطعــام!
ومــا فـي طبّه أنّـي جــواد       أضـرّ بجسمه  طــول الجمـام
فإن أمرض، فما مرض اصطباري       وإن أحـمم فمـا حّـم اعتـزامي

فحتى لحظة المرض تصبح من المحرّمات لأنها العدّوة للحماسة والشدّة، تعوّد على الاسترخاء وتعلّم الليونة، إنها باختصار عدوّة الرجولة.
ومن نفس المنطلق اعتبر الخمرة والمرأة عدوّتين لدودتين لأنهما مثل المرض: ضعف ووهن للبدن والعقل وشدّ الى الاستقرار والجلوس:
ولا تحسبـنَّ المجـد زقـّا وقينة       فما المجد إلا السيّف والفتكة البكر

وهذا ما يفسّر تمازج لغة العشق النسائي بعشق السلاح:
وغير فـؤادي  للغواني رميّة           وغيـر بنـاني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهوة            فليس لنـا إلا بهـنّ لعــاب

وهذا ما يفسّر كذلك شبه خلوّ ديوان المتنبي من الغزل وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
إنّ في هذا دليلاً جليّاً على أنّ ما يرنو إليه يوجد فوق الأرض، هناك حيث المجد والأنا الأرقى بعيداً عن جاذبيّة النساء والخمّارات والجنس.
ولم يكن المتنبي مجرّد منظر للحماسة ومبدإ الشدّة، بل كان يعيش ذلك شاعراً وإنساناً. فقد تحمّس للكلمة الصادقة النابضة بأصالة العرب بعيداً عن كل عجمة ورطانة ودخيل، فلغة الأجداد ليست في حاجة الى رديف يشدّ أزرها بل هي قادرة بذاتها شموخاً وصموداً، فما حذقه المتنبي من بداوتها جعله مقتنعاً بأنّه قادر على أن يسمع الأصمّ ويرى الأكمة الأعمى:
أنا الذي نظر الأعمـى إلى أدبي        وأسمعت كلمـاتي  من به صمم

ولهذا حقّر كل من قصّر عن القصيدة العربية ولم يرق الى مستوى فصاحتها وبيانها:
بأيّ لفظ تقـول الشعـر زعنفة         تجوز عندك، لا عرب ولا عجم

ولعلّ هذا من الأسباب القويّة التي دفعت المتنبي للتعريف «بالمتنبي شاعراً» بين الآفاق وترتفع بشعره عن مدح من لم يكن في مستوى الرجولة. مثل ذلك مثل ابن كيغلغ الذي ألحّ على المتنبي ليمدحه فما كان منه إلاّ أن هجاه.
فلشعر المتنبي تحفز نحو المغامرة وإيصال صوت البيان وصداح البلاغة في عصر كثر فيه العجم والعبيد.
فلا بدّ أن يتوفر شعره على القدر الأعلى في تحمّل الرسالة خدمة لقضية العرب: اللّغة بوصفها الهويّة والانتماء والمستقبل.
وقد تحمّل أبو الطيب أعباء تلك الرسالة فحبّب الى النفس كل المعاني العربيّة الشامخة الضاربة بجذورها في عمق الصحراء وشدّة البداوة وقساوة الحرارة.
حبّب الحرية ونفرّ من العبوديّة، وتغنى بالقوة وتأنّف من الجبن.
وأنشد أناشيد الحرب وأغرى بساحات الوغى ولذائد النصر حتى بدت من الصور أغربها ومن الأبعاد أطرفها.
فالمتنبي رسم لنفسه هدفا فوق المعقول:
أريد من زمنـي ذا أن يبلّغني           ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

فعزّة الشموخ قد التصقت بأبي الطيب حتى أصبحت ضربا من الغنائيّة العجيبة أحياناً مثلما تجلوه الأبيات التالية:
لا افتخـار  إلاّ لمن لا يُضـام          مـدرك أو محـارب لا ينـام
ليس عزما ما مرّض المرء فيه         ليس هما ما عاق عنه الظـلام
واحـتمـال الأذى ورؤيـة جــانـيــه غـذاء  تضوى به الأجسام
ذّل  من يغـبط الذليـل بعيش           ربّ عيـش  أضفّ منه الحمام

ولم يكتف بذلك بل انعكس هذا التحمّس على علاقاته بالآخر.
حماسة المتنبي في علاقتها بالاخر:
قد يكون هذا الآخر في جانب منه أبا الطيّب نفسه فهو مهما يكن الأمر إنسان، وقد تأخذه بين الفينة والأخرى لحظات ضعف وانكسار إلاّ أنه ينتفض ويتقاوى ويتعاظم محمّساً نفسه ولائماً أحياناً أو حتى مقرّعاً:
صحب الناس قبلنا ذا الزَّمـانا          وعنـاهم من شأنه  ما عنـانا
وتولـّوا بغصّـة كلّـُهـم مـنــــه وإن سـرّ بعـضهم أحيـانـا
..
ولو أن الحيـاة  تبقـى لحيٍّ           لعددنـا أضلّـنـا الشـجعـانا
وإذا لم يـكن من المـوت بدٌّ           فمن العجـز أن تمـوت  جبانا

صحيح أن النفس العام تطعن عليه غنائية المنهار المستضعف ولكن القسوة الذاتية من عمق الشخصية تأبى التسليم والرضوخ وتتوجه الى كل من يتربّص به الفناء كي يرفض الموت ويتمرّد عليه. إنّ الحلّ للخلود في رفض الجبن أمام القضاء وأمام الزمان.
إنّه درس في وجوب التمرّد وسبيل البقاء.
إنّ المتنبي ينتفض من بين أنقاض الهزيمة والاحباط ليجمع ما تشتّت من قواه الخائرة في صراع بين القدرة والإمكان والممكن والمستحيل والكائن وما يجب أن يكون.
أبو الطيب يروّض النفوس على اختراق المستحيل وبدون ذلك لا يكون المرء جديراً بإنسانيته، فمقياس الإنسان الحق أن يتعفّف ويترفّع في صبر ضدّ قانون الطبيعة ذاته:
وأصدى فلا أبدي الى الماء حاجة       وللشمس فـوق اليعملات لعـاب

وإنّ المطّلع على مدحيّات المتنبي يلاحظ إصراراً عنيداً على جملة من القيم استهوته وأحبّها في من مدح صادقاً أو طبقاً لمقتضيات طبيعة المدحيّة القاضية بوجوب تمجيد الممدوح.
فالقاموس الحماسي ينهل من مبادىء عربيّة ترّسخ للرجولة في أعمق معانيها سواء أتعلق الأمر بما هو مجرّد طبع في الانسان أو ماهو ضرورة من ضرورات الدفاع عن النفس والعرض والوطن.
فقد أفاض من عالمه الإسقاطي على من مدح من العظماء فحبّب للمتلقي الرجل الكريم الشجاع الفاعل.
ويتجلّى هذا بالخصوص في استقرار أبي الطيب تسع سنوات مع سيف الدولة رغم كونه يأبى الاستقرار ويدعو جاهداً الى الحركة. ففي سيف الدولة مميّزات رجولة وصلف وكبرياء. يضاف الى ذلك صفات المروءة التي تصبح علامة استفزاز ايجابيّة للجميع، خاصة أنّ سيف الدولة تحولت المبادىء النظرية معه واقعاً ملموساً يمارس للدفاع عن العروبة والاسلام.
يكلّـف سيف الـدولة الجيش همّه      وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

فلم تعد البطولة مجرّد قول في معجميّة الممدوح، وفي هذا تماهٍ مع الماح:
أقـلّ فعــالي بلّه أكثر مجـد          وذا الجدّ فيه  نلت أم لم أنل جدّ

ومن نفس المنطلق تتحول القصيدة الهجائية تجسيماً لوهن قوى المهجو وخور عزيمته وكثرة نواقصه الرّجولية وفي هجاء كافور مثلاً ما يحمّس النفس والعقل معاً أفراداً وجماعاتٍ للاستنكاف من كلّ ماهو انهيار قيمي كالخسّة والنذالة:
أميـناً وإخـلافاً  وغـدراً وخسّـةً     وجبناً، أشخصاً لحتَ لي أم مخازيا؟

فلا يتوقّف مفهوم الحماسة على غرض بعينه أو شخص أو زمان، فحتى عندما رثى جدّته، عوض أن يضعف المتنبي نراه يعلم الناس كيف تقلب ساعة الانحناء استقامة، ولحظة اليأس اندفاعاً ووثوباً:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبـي        ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي سـاعة لا تعزّني         ولا صحبتْني مهجةٌ  تقبل الظلما

إنّ معاني الحماسة في قاموس المتنبي قد بلغت من الغرابة أحياناً أن تطال حالات يكون فيها الانسان مجبولاً على القبول والتلطّف واللّين. فحتى المرأة الحبيبة إذا ما علقها الرجل، يجب أن تتحوّل عنصراً محفّزاً لا مثبّطاً، وعنصر تعالٍ لا تدنٍّ.
لذلك استمالته المرأة البدوية لما هي عليه من طباع وسلوك تساهم في إشعار الرجل برجولة مزدوجة، فارتباطه بها إنّما هو تقوية للصدق والجمال وكذلك الصلابة والإباء:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية          وفي البداوة حسن غير مجلوب

فالمتنبي ينفر من الرّياء والكذب حتى بأصباغ الزينة والكلام. فللمرأة قدر من «الرجولة» لا بدّ أن يتوفر فيها لتكون جذّابة محترمة يخفق لها الوجدان والعقل معاً.
وفي هذا انتماء واضح الى أصالته المعهودة:
سوائر ربّما سـارت هـوادجها         منيـعة بين مطعون  ومضروب
وربّما وخدت أيدي المطيّ بهـا         على نجيع من الفرسان مصبوب

فاللغة والصورة غريبتان على غرض مثل الغزل: (الطعن والضرب والمناعة والنجيع والفرسان..) وكأنّنا في ساحة وغى وقتال. إنها ملحمة الحبّ وهيجان الرجولة حتى في الوقت الذي من المفروض أن تهدأ. فإذا كانت المرأة العادية عنوان إضعافٍ للرجل فإنّ امرأة أبي الطيب تتحوّل عنصر تقوية لبثّ المزيد من الشدّة. وقد تفاعل الشاعر مع هذا النمط من التفكير والشعور، فاستهواه وتجلّت ملامحه في غرض المدح.
فصورة النصر الباهر الذي توفرت مظاهره العديدة على يدي سيف الدولة انتقل انبهارها الى قريحة أبي الطيب فهيّجت فيه شجون حبّ وهيام الى حدّ يشبه العشق والانتشاء الساحر. إنه يتملّى الجثث المتناثرة فوق جبل الأحيدب وقد أثخن القائد العربي في صفوف الروح فبدّد شملهم وأنهك قواهم، فإذا المشهد مشهد زفاف وعروس ومدعوّين:
نثـرتهم فـوق الأحيـدب كلـّه        كما نثرت فوق العروس الدراهم
..
ولستَ مليـكاً هـازماً لنظيـره         ولكنّك التوحيـد للشرك هـازم

تتداخل ملحمة القلب بملحمة الروح بملحمة الصورة العقليّة الايحائية.. ولا غرابة من منطق المتنبي: فقلبه يخفق حبّاً وارتياحاً، وروحه تسبح لنصر الله في شخص الممدوح، وعقله متفتّقة قريحته على صور إبداعية ايحائية تبحث عن الجديد غير المسبوق.
فعين المتنبي متحمسة في كل مقام ومع كل غرض وكل شيء، لأنها بكلّ بساطة ليست مستعدّة لغير ذلك كي تراه وتتعشقه.
ولعلّ هذا ما يفسّر من بعض الوجوه، غياب المقدّمات الطلليّة النسائية العاطفيّة في عدد من المدحيّات أو إيجازها أحياناً أخرى.
فالمتنبي ليس مستعدّاً للوقوف أصلاً، فما بالك إذا كان الوقوف للبكاء والضعف والتوّع.
لذا عوّض العقل القلب في كثير من مقدّمات المدحيّات، فحضرت الحكم والتأمّلات:
لكـلِّ امـرىء من دهـره مـا تعوّدا          وعادات سيف الدولة الطعن في العدى

أو قوله:
على قدر أهل العـزم تأتي العزائم             وتأتي على قدر الكـرام المكـارم
وتعظم في عين الصغير صغارها               وتصغر في عين العظيم  العظائم

أبيات تدور على بعضها بعضا لتصنع فنّ التعشق للعظمة والبطولة والإباء، فيصبح منه بطل القصيدة عروبة تقارع عجمة، وإسلاماً يناجز كفرا:
تشرّف عدنان به لا ربيـعة              وتفتخر الدنيا به لا العواصم

فهذا البيت ورد في آخر القصيدة ليفصّل القول في ما تنبّأت به المقدّمة الحكميّة، فالبطل الأسطوري يشده الرجال إليه ويمنع الفراق ويعسّره:
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم             وجداننا كل شيء بعدكم عدم

ورغم أنّ عصر المتنبي (القرن 4هـ) تباعدت فيه المسافة عن العصر الجاهلي وقيمه فإن عقل المتنبي ظل لصيقاً به حتى كأنه غريب عن عصره ممّا عسّر العلاقة مع الآخر ـ فكافور ـ مثلا ـ كان نموذجا للرجل الذي كوّن نفسه بنفسه فقد قال فيه خير الدين الزركلي في «الأعلام»: «مازالت همّته تصعد به حتى ملك مصر سنة 355 هـ. وكان فطنا ذكيّا حسن السياسة.. قام بتدبير المملكة. قال الذهبي: كان عجبا في العقل والشجاعة» ورغم كل هذه الشهادة الصارخة، فإنّ قراءة المتنبي لشخصيّة كافور أفسدت عليه رؤية تلك الخصال، فأبو الطيب مأخوذ بعقليّة عصبيّة عنصرية تحتقر المرء لمجرّد لونه الأسود، فكان ذلك وحده كفيلا بأن يطمس ما طبع بلاط الملك بأرقى أنواع المعرفة والمناظرات والمساجلات الفكريّة والأدبيّة فلم يبق من الرجل إلا جلدة زيتية وشفران غليظان ورجلان مضخمتان حتى كأنه السليخة التي يُرمى بها في سلة القمامة: نتونة وخصي ينفي كلاهما كلّ رجولة وكل سيادة.
من علّم الأسود المخصيّ مكرمة؟        أقـومه البيض أم آباؤه الصـيد!!
أم أذنه في يد النخّـاس دامـية!!      أم قـدره وهـو بالفلسين مردود؟

موقف واضح من الأعاجم كان من المفروض أن تلغيه عقليّة الإسلام السمحة.
وهكذا نفهم كيف انتقى أبو الطيب أبطال أشعاره رمزاً للبهاء فعلاً، ورمزاً للبهاء أصلاً.
إنّ فكر الانتصار يجعل من الرجل قادراً حتى لو كان منفرداً في عصر الهزائم والانقسامات. وبهذا الاستثناء الخارج عن وعلى القاعدة جسّم بطله سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف        كأنّك في جفن الرّدى  وهو نائم

وهذا ما يفسّر كذلك إعجاب الشاعر بدر بن عمار وتصرّفه مع الأسد، فكان الرجل الأسطورة التي لا تحدث دائماً:
أمعفـّـر الليث الهزبر بسـوطه        لمن إدّخرت الصـارم المصقولا
..
سبـق التقـاءكه بثوبة هـاجم         لو لا تصـادمه لجـازك ميـلا
خذلتـه قـوّته  وقـد كـافحته         فاستنـصر التسليـم والتجديلا
..
مـا كلّ من طلب المعالي  نافذا         فيهـا ولا كلّ الرجـال فحـولا

ومن يتبع جزءاً من أولى مدحيّات المتنبي في سيف الدولة يزداد تأكداً من تغلغل الحسّ الحماسي الملحمي الذي امتلك جوارح الشاعر فتواثبت لديه الصور تدور على نفسها في تناغم داخلي يحاكي دوران الجيش على الجيش والتحام الأبطال بالأبطال حتى تخترقك الكلمة بإيحاءاتها تفعل فعل الساحر في جلبه لأمجاد الأجداد عروبة وإباء واصرارا.
طبيعة متحرّكة صبحاً ليلاً وسيوفاً وقناً، تتآزر لتصنع المجد والسؤدد جناس وطباق ومقابلات وأطناب وتكرار.. صور تولّد صورا في لغة لا تعترف بخديل، في قدرة عجيبة على الإخصاب الذاتي:
فقد مـلّ ضوء الصبح  ممّا تغيره       وملّ سـواد الليـل ممّـا تزاحمه
وملّ القنـا ممّـا تدق صــدوره       وملّ حديـد الهند  ممّـا تـلاطمه
سحابٌ من العقبـان  يزحف تحتها      سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه

بهذا المستوى من الرؤى الشعرية تفرّد المتنبي فاغترب، وعاش حياة أبعد ما كون عن الهدوء والقرار. وتلك ضريبة الرجولة عندما تفرض على أصحابها ممّا عجزوا عن أن يتنكّروا للهويّة والانتماء، الانتماء الى اللّه إسلاماً والى الإنسان عروبة وفي تكامل أفقي عمودي بينهما نقطة التقادح والخلود: فالإنسان قبس من روح اللّه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق