الجمعة، 13 مايو 2011

تقنيّات تحليل النصّ الشّعري

* التّركيز على الأساليب البلاغيّة:
- الإنشاء: ما لا يصحّ أن يُقال لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب.
الإنشاء نوعان طلبيّ و غير طلبيّ
الطّلبي: ما يستدعي مطلوبا غيرَ حاصل وقت الطّلب، و يكون بالأمر و النّهي و الاستفهام و التمنّي و النّداء.
غير طلبي: ما لا يستدعي مطلوبا، و له صيغ عديدة منها: التعجّب و المدح و الذمّ و القسم و أفعال الرّجاء و كذلك صيغ العقود.
يُستعمل الأسلوب الإنشائي عادة للتعبير عن الحالة النفسيّة.
- الخبر: ما يصحّ أن يُقال لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب.
هو أسلوب تقريريّ
* المحسّنات اللفظيّة و المعنويّة
- الجناس: أكل/ مأكول
- الطّباق ( دخل / خرج )
- السّجع
- المقابلة
* دراسة الصّورة
- التّشبيه
- الاستعارة
- المجاز
* الإيقاع
- الترديد
- المراوحة بين الخبر و الإنشاء
- الللاّزمة الشعريّة
- تواتر صيغ صرفيّة معيّنة







الأربعاء، 11 مايو 2011

الحماسة في شعر المتنبي

الحماسة في شعر المتنبي
بقلم: صلاح داود

إذا كان مفهوم الحماسة يثير في الذهن من أول وهلة المعاني الحافّة بالحرب والقتال فإن الاقتصار على ذلك يغلق منافذ أخرى ذات أهميّة يمكن أن توضّح أبعاداً أكثر اتساعاً تشمل مفاهيم الشدّة والشجاعة والقوّة بما قد لا يتصل إطلاقاً بجوّ المعارك والقتال. وهذا من شأنه أن يجعل من المسألة قضيّة واسعة تتطلب من الدارس للشعر العربي أن يستقرىء أكثر من توجّه في هذا النطاق.
وقد يتوهّم البعض منّا أن الغرض البارز في موضوع الحماسة إنما هو شعر الفخر بالأساس وربّما يتعدّاه إلى شعر المدّح. غير أن المنطق المتأني يمكّن من تبيّن أنّ الحماسة قد تكمن حتى في شعر الغزل بماهو استعراض من بعض الجوانب لحال العاشق الذي يفرض على نفسه الجهاد والصبر والمكابرة ومواجهة الصعاب للوصول الى متطلبات رحلته الوجدانيّة. ويكفي أن نذكّر في هذا السيّاق بتقديم عنتره نفسه في صورة البطل الأرقى الذي يفرض على المرأة الإعجاب به والاحترام.
وتبعاً لهذه الملاحظات يتطلب منّا العمل أن نتجاوز دراسة محور الحماسة عند المتنبي أو أبي تمام أو ابن هانىء أو سواهم بعيداً عن النمطيّة الجاهزة والتبويب الاعتباطي الحاضر نتيجة أحكام استباقيّة تتحكم فيها مواقف ما قبليّة.
فأين تجلّيات الحماسة عند المتنبي؟
وماهي الدواعي التي عزّزت إبرازها وغلوّها أحيانا في شعره؟
إن من أهمّ المظاهر التي تتجلّى من خلالها حماسة أبي الطيب سمة التمرّد والتغنّي والتسامي والتعشق للقوّة في كلّ مظاهر الكون بما يجعل من الإنسان يستمدّ كل معاني وجوده من هذه السّمات.
وقد تجسّدت هذه الرؤية المتسامية في تحميس الذّات وتحميس الآخر. لذلك نرى أنّ شعر المتنبي الحماسي يكشف عن موقف الشاعر من نفسه وما يحمّلها إيّاه من متاعب جمّة وعن موقفه من العالم الخارجي وما يشترطه فيه وجوبا من ضرورات حتى يستطيع التناغم معه والتعايش. وهذا الآخر قد يكون ذاك الذي عاصره المتنبي أو حتى القارىء في كل زمان ومكان.
إنّ أبا الطيب يتعامل مع ما حوله بكثير من الرفض والثورة. فليس من الهيّن عليه أن يتقبّل أمراً لم يتوافق مع أفكاره ومبادئه ونظرته الى الحياة. فلقد رسم لنفسه حدّا لا أقل منه، ويظهر ذلك في أكثر من مقام وأكثر من غرض وفي جلّ مراحل عمره: في بداية تجربة الحياة، وبعد أن ضرب في الأرض وخبر البلاد والعباد.
فالحميّة اخترقت خلاياه وتخلّلت عقله وتغلغلت في وجدانه حتى بدا الصبي أبو الطيب قد قفز على عمره وكسّر النمطيّة الجاهزة عن معالم الطفولة. فقد توطّنت فيه كبرياء العظماء وقوّة الرجال وصلابة الفحول وهو ما يزال في سنّ الصبى بعيداً جدّا عن التبكير تجاه أفكار الكبار:

أيّ محـلّ أرتقـي      أي عظيـم  أتّـقي
وكلّ  ما قد خلـق      الله ومـا لـم يخلق
محتقر في همّـتي       كشعرة في مفـرقي

تبدو قعقعة القاف مدوّية، وهو الصوت الحلقي المزدوج الشدّة والحرف الحلقيّة الأخرى مزيجاً من الأنين (الهمزة مرّتين) (ثم مرّة) في البيت 1 ومزيجاً من الاختناق (العين والخاء والحاء..) حتى بدا الكون مبعث اشمئزاز يستفزّ مجرّد العيش فيه أنفة المتنبي ويتوّقه في تحمّس باد صوت الأعلى والأعظم والأمثل والنظر في شعر الصبي يوضّح بجلاء أنها ليست مسألة عرضية تلك التي تشغل المتنبي، ففي باطنه ما يدفع الى الحلم المنشود تلبية لما يرومه «الطفل الكبير» حتى كأنّ أبا الطيب ولد أصلاً كبيراً وسيظلّ يحدّد لنفسه عبر مراحل حياتها علامات السير وأهداف الرحلة: "إن أكن معجباً فعجب عجيب" لم يجد فوق نفسه من مزيد وهذا الطفل الأعجوبة هو الذي سيلزم أبا الطيب بأن «يفترش» «صهوة الحصان» ويغامر الى عالم قدسي خارق للموجود صوب النجوم:
مفرشي صهوة الحصان ولــكـنّ قميصي مسرودة من حديد

وليس إلا بهذا النهج الحركي يتمكّن المتنبي من إدراك الهدف:
إذا غـامرتَ في شرفٍ مرومٍ            فــلا تقنع بما دون النجـوم

وهو يعلم أنّ مثل هذه الرحلة ليست بالهيّنة، ولكن لا اختيار لمن ارتأى لنفسه طريقاً مخصوصة به:
وإذا كـانت النفـوس كبـاراً           تعبت في مـرادها الأجسـام

فالمتنبي يقسو على نفسه يحمّلها من المشاق ما لا طاقة للإنسان العادي به وكأنّه يروّضها على ماهو من مشمولاتها أو من المقتضيات التي يحب أن تصبح جزءاً من مكتسباتها، مرغماً لها على أن تكسّر الموروث.
وبهذا المنطق المتشدّد مع الذات، كأنّ المتنبي يعلم كل ذي نفس مهزوزة أو ضعيفة أنّ السبيل الى الإنسانية في الإنسان لا تستوجب تردّداً أو تحتمل تشكيكا:
إذا اعتـاد الفتى خوض المنايا          فأيسر مـا يمرّ به  الوحـول
يهون علينا أن تصاب جسومنا          وتسلم أعـراض لنا وعقـول

فالتضحية بالجسد/ بالمادّة مهما عظمت هي السبيل الرئيسي لنيل الشرف الأخلاقي والعلمي.
إنّ المتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر يتقابسان نار السيّادة ولذة الشموخ. وبذلك يتحوّل المتنبي رائداً يحمّس النفوس الخائرة والمستخفين بالمنزلة العليا على أن يراجعوا مفاهيمهم للكون. فالحماسة هنا تبدو أكثر من مجرّد حالة وإنما هي موقف وقرار ومسؤولية وهي ليست أمراً اختياريّا أو عرضيّاً ظرفياً، بل هي سمة قارّة أساسيّة، إذ انتفت انتفى معها كنه الوجود وسرّ الحياة.
لذلك حمّل المتنبي نفسه أعباء الحركة وحرّم عليها الركون الى الراحة لأن الراحة أصلاً هي التعب السلبي، والتعب هو الراحة الإيجابيّة.
يقـول لي الطيب: أكـلـت شيئا؟       وداؤك  في شـرابك والطعــام!
ومــا فـي طبّه أنّـي جــواد       أضـرّ بجسمه  طــول الجمـام
فإن أمرض، فما مرض اصطباري       وإن أحـمم فمـا حّـم اعتـزامي

فحتى لحظة المرض تصبح من المحرّمات لأنها العدّوة للحماسة والشدّة، تعوّد على الاسترخاء وتعلّم الليونة، إنها باختصار عدوّة الرجولة.
ومن نفس المنطلق اعتبر الخمرة والمرأة عدوّتين لدودتين لأنهما مثل المرض: ضعف ووهن للبدن والعقل وشدّ الى الاستقرار والجلوس:
ولا تحسبـنَّ المجـد زقـّا وقينة       فما المجد إلا السيّف والفتكة البكر

وهذا ما يفسّر تمازج لغة العشق النسائي بعشق السلاح:
وغير فـؤادي  للغواني رميّة           وغيـر بنـاني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهوة            فليس لنـا إلا بهـنّ لعــاب

وهذا ما يفسّر كذلك شبه خلوّ ديوان المتنبي من الغزل وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
إنّ في هذا دليلاً جليّاً على أنّ ما يرنو إليه يوجد فوق الأرض، هناك حيث المجد والأنا الأرقى بعيداً عن جاذبيّة النساء والخمّارات والجنس.
ولم يكن المتنبي مجرّد منظر للحماسة ومبدإ الشدّة، بل كان يعيش ذلك شاعراً وإنساناً. فقد تحمّس للكلمة الصادقة النابضة بأصالة العرب بعيداً عن كل عجمة ورطانة ودخيل، فلغة الأجداد ليست في حاجة الى رديف يشدّ أزرها بل هي قادرة بذاتها شموخاً وصموداً، فما حذقه المتنبي من بداوتها جعله مقتنعاً بأنّه قادر على أن يسمع الأصمّ ويرى الأكمة الأعمى:
أنا الذي نظر الأعمـى إلى أدبي        وأسمعت كلمـاتي  من به صمم

ولهذا حقّر كل من قصّر عن القصيدة العربية ولم يرق الى مستوى فصاحتها وبيانها:
بأيّ لفظ تقـول الشعـر زعنفة         تجوز عندك، لا عرب ولا عجم

ولعلّ هذا من الأسباب القويّة التي دفعت المتنبي للتعريف «بالمتنبي شاعراً» بين الآفاق وترتفع بشعره عن مدح من لم يكن في مستوى الرجولة. مثل ذلك مثل ابن كيغلغ الذي ألحّ على المتنبي ليمدحه فما كان منه إلاّ أن هجاه.
فلشعر المتنبي تحفز نحو المغامرة وإيصال صوت البيان وصداح البلاغة في عصر كثر فيه العجم والعبيد.
فلا بدّ أن يتوفر شعره على القدر الأعلى في تحمّل الرسالة خدمة لقضية العرب: اللّغة بوصفها الهويّة والانتماء والمستقبل.
وقد تحمّل أبو الطيب أعباء تلك الرسالة فحبّب الى النفس كل المعاني العربيّة الشامخة الضاربة بجذورها في عمق الصحراء وشدّة البداوة وقساوة الحرارة.
حبّب الحرية ونفرّ من العبوديّة، وتغنى بالقوة وتأنّف من الجبن.
وأنشد أناشيد الحرب وأغرى بساحات الوغى ولذائد النصر حتى بدت من الصور أغربها ومن الأبعاد أطرفها.
فالمتنبي رسم لنفسه هدفا فوق المعقول:
أريد من زمنـي ذا أن يبلّغني           ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

فعزّة الشموخ قد التصقت بأبي الطيب حتى أصبحت ضربا من الغنائيّة العجيبة أحياناً مثلما تجلوه الأبيات التالية:
لا افتخـار  إلاّ لمن لا يُضـام          مـدرك أو محـارب لا ينـام
ليس عزما ما مرّض المرء فيه         ليس هما ما عاق عنه الظـلام
واحـتمـال الأذى ورؤيـة جــانـيــه غـذاء  تضوى به الأجسام
ذّل  من يغـبط الذليـل بعيش           ربّ عيـش  أضفّ منه الحمام

ولم يكتف بذلك بل انعكس هذا التحمّس على علاقاته بالآخر.
حماسة المتنبي في علاقتها بالاخر:
قد يكون هذا الآخر في جانب منه أبا الطيّب نفسه فهو مهما يكن الأمر إنسان، وقد تأخذه بين الفينة والأخرى لحظات ضعف وانكسار إلاّ أنه ينتفض ويتقاوى ويتعاظم محمّساً نفسه ولائماً أحياناً أو حتى مقرّعاً:
صحب الناس قبلنا ذا الزَّمـانا          وعنـاهم من شأنه  ما عنـانا
وتولـّوا بغصّـة كلّـُهـم مـنــــه وإن سـرّ بعـضهم أحيـانـا
..
ولو أن الحيـاة  تبقـى لحيٍّ           لعددنـا أضلّـنـا الشـجعـانا
وإذا لم يـكن من المـوت بدٌّ           فمن العجـز أن تمـوت  جبانا

صحيح أن النفس العام تطعن عليه غنائية المنهار المستضعف ولكن القسوة الذاتية من عمق الشخصية تأبى التسليم والرضوخ وتتوجه الى كل من يتربّص به الفناء كي يرفض الموت ويتمرّد عليه. إنّ الحلّ للخلود في رفض الجبن أمام القضاء وأمام الزمان.
إنّه درس في وجوب التمرّد وسبيل البقاء.
إنّ المتنبي ينتفض من بين أنقاض الهزيمة والاحباط ليجمع ما تشتّت من قواه الخائرة في صراع بين القدرة والإمكان والممكن والمستحيل والكائن وما يجب أن يكون.
أبو الطيب يروّض النفوس على اختراق المستحيل وبدون ذلك لا يكون المرء جديراً بإنسانيته، فمقياس الإنسان الحق أن يتعفّف ويترفّع في صبر ضدّ قانون الطبيعة ذاته:
وأصدى فلا أبدي الى الماء حاجة       وللشمس فـوق اليعملات لعـاب

وإنّ المطّلع على مدحيّات المتنبي يلاحظ إصراراً عنيداً على جملة من القيم استهوته وأحبّها في من مدح صادقاً أو طبقاً لمقتضيات طبيعة المدحيّة القاضية بوجوب تمجيد الممدوح.
فالقاموس الحماسي ينهل من مبادىء عربيّة ترّسخ للرجولة في أعمق معانيها سواء أتعلق الأمر بما هو مجرّد طبع في الانسان أو ماهو ضرورة من ضرورات الدفاع عن النفس والعرض والوطن.
فقد أفاض من عالمه الإسقاطي على من مدح من العظماء فحبّب للمتلقي الرجل الكريم الشجاع الفاعل.
ويتجلّى هذا بالخصوص في استقرار أبي الطيب تسع سنوات مع سيف الدولة رغم كونه يأبى الاستقرار ويدعو جاهداً الى الحركة. ففي سيف الدولة مميّزات رجولة وصلف وكبرياء. يضاف الى ذلك صفات المروءة التي تصبح علامة استفزاز ايجابيّة للجميع، خاصة أنّ سيف الدولة تحولت المبادىء النظرية معه واقعاً ملموساً يمارس للدفاع عن العروبة والاسلام.
يكلّـف سيف الـدولة الجيش همّه      وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

فلم تعد البطولة مجرّد قول في معجميّة الممدوح، وفي هذا تماهٍ مع الماح:
أقـلّ فعــالي بلّه أكثر مجـد          وذا الجدّ فيه  نلت أم لم أنل جدّ

ومن نفس المنطلق تتحول القصيدة الهجائية تجسيماً لوهن قوى المهجو وخور عزيمته وكثرة نواقصه الرّجولية وفي هجاء كافور مثلاً ما يحمّس النفس والعقل معاً أفراداً وجماعاتٍ للاستنكاف من كلّ ماهو انهيار قيمي كالخسّة والنذالة:
أميـناً وإخـلافاً  وغـدراً وخسّـةً     وجبناً، أشخصاً لحتَ لي أم مخازيا؟

فلا يتوقّف مفهوم الحماسة على غرض بعينه أو شخص أو زمان، فحتى عندما رثى جدّته، عوض أن يضعف المتنبي نراه يعلم الناس كيف تقلب ساعة الانحناء استقامة، ولحظة اليأس اندفاعاً ووثوباً:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبـي        ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي سـاعة لا تعزّني         ولا صحبتْني مهجةٌ  تقبل الظلما

إنّ معاني الحماسة في قاموس المتنبي قد بلغت من الغرابة أحياناً أن تطال حالات يكون فيها الانسان مجبولاً على القبول والتلطّف واللّين. فحتى المرأة الحبيبة إذا ما علقها الرجل، يجب أن تتحوّل عنصراً محفّزاً لا مثبّطاً، وعنصر تعالٍ لا تدنٍّ.
لذلك استمالته المرأة البدوية لما هي عليه من طباع وسلوك تساهم في إشعار الرجل برجولة مزدوجة، فارتباطه بها إنّما هو تقوية للصدق والجمال وكذلك الصلابة والإباء:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية          وفي البداوة حسن غير مجلوب

فالمتنبي ينفر من الرّياء والكذب حتى بأصباغ الزينة والكلام. فللمرأة قدر من «الرجولة» لا بدّ أن يتوفر فيها لتكون جذّابة محترمة يخفق لها الوجدان والعقل معاً.
وفي هذا انتماء واضح الى أصالته المعهودة:
سوائر ربّما سـارت هـوادجها         منيـعة بين مطعون  ومضروب
وربّما وخدت أيدي المطيّ بهـا         على نجيع من الفرسان مصبوب

فاللغة والصورة غريبتان على غرض مثل الغزل: (الطعن والضرب والمناعة والنجيع والفرسان..) وكأنّنا في ساحة وغى وقتال. إنها ملحمة الحبّ وهيجان الرجولة حتى في الوقت الذي من المفروض أن تهدأ. فإذا كانت المرأة العادية عنوان إضعافٍ للرجل فإنّ امرأة أبي الطيب تتحوّل عنصر تقوية لبثّ المزيد من الشدّة. وقد تفاعل الشاعر مع هذا النمط من التفكير والشعور، فاستهواه وتجلّت ملامحه في غرض المدح.
فصورة النصر الباهر الذي توفرت مظاهره العديدة على يدي سيف الدولة انتقل انبهارها الى قريحة أبي الطيب فهيّجت فيه شجون حبّ وهيام الى حدّ يشبه العشق والانتشاء الساحر. إنه يتملّى الجثث المتناثرة فوق جبل الأحيدب وقد أثخن القائد العربي في صفوف الروح فبدّد شملهم وأنهك قواهم، فإذا المشهد مشهد زفاف وعروس ومدعوّين:
نثـرتهم فـوق الأحيـدب كلـّه        كما نثرت فوق العروس الدراهم
..
ولستَ مليـكاً هـازماً لنظيـره         ولكنّك التوحيـد للشرك هـازم

تتداخل ملحمة القلب بملحمة الروح بملحمة الصورة العقليّة الايحائية.. ولا غرابة من منطق المتنبي: فقلبه يخفق حبّاً وارتياحاً، وروحه تسبح لنصر الله في شخص الممدوح، وعقله متفتّقة قريحته على صور إبداعية ايحائية تبحث عن الجديد غير المسبوق.
فعين المتنبي متحمسة في كل مقام ومع كل غرض وكل شيء، لأنها بكلّ بساطة ليست مستعدّة لغير ذلك كي تراه وتتعشقه.
ولعلّ هذا ما يفسّر من بعض الوجوه، غياب المقدّمات الطلليّة النسائية العاطفيّة في عدد من المدحيّات أو إيجازها أحياناً أخرى.
فالمتنبي ليس مستعدّاً للوقوف أصلاً، فما بالك إذا كان الوقوف للبكاء والضعف والتوّع.
لذا عوّض العقل القلب في كثير من مقدّمات المدحيّات، فحضرت الحكم والتأمّلات:
لكـلِّ امـرىء من دهـره مـا تعوّدا          وعادات سيف الدولة الطعن في العدى

أو قوله:
على قدر أهل العـزم تأتي العزائم             وتأتي على قدر الكـرام المكـارم
وتعظم في عين الصغير صغارها               وتصغر في عين العظيم  العظائم

أبيات تدور على بعضها بعضا لتصنع فنّ التعشق للعظمة والبطولة والإباء، فيصبح منه بطل القصيدة عروبة تقارع عجمة، وإسلاماً يناجز كفرا:
تشرّف عدنان به لا ربيـعة              وتفتخر الدنيا به لا العواصم

فهذا البيت ورد في آخر القصيدة ليفصّل القول في ما تنبّأت به المقدّمة الحكميّة، فالبطل الأسطوري يشده الرجال إليه ويمنع الفراق ويعسّره:
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم             وجداننا كل شيء بعدكم عدم

ورغم أنّ عصر المتنبي (القرن 4هـ) تباعدت فيه المسافة عن العصر الجاهلي وقيمه فإن عقل المتنبي ظل لصيقاً به حتى كأنه غريب عن عصره ممّا عسّر العلاقة مع الآخر ـ فكافور ـ مثلا ـ كان نموذجا للرجل الذي كوّن نفسه بنفسه فقد قال فيه خير الدين الزركلي في «الأعلام»: «مازالت همّته تصعد به حتى ملك مصر سنة 355 هـ. وكان فطنا ذكيّا حسن السياسة.. قام بتدبير المملكة. قال الذهبي: كان عجبا في العقل والشجاعة» ورغم كل هذه الشهادة الصارخة، فإنّ قراءة المتنبي لشخصيّة كافور أفسدت عليه رؤية تلك الخصال، فأبو الطيب مأخوذ بعقليّة عصبيّة عنصرية تحتقر المرء لمجرّد لونه الأسود، فكان ذلك وحده كفيلا بأن يطمس ما طبع بلاط الملك بأرقى أنواع المعرفة والمناظرات والمساجلات الفكريّة والأدبيّة فلم يبق من الرجل إلا جلدة زيتية وشفران غليظان ورجلان مضخمتان حتى كأنه السليخة التي يُرمى بها في سلة القمامة: نتونة وخصي ينفي كلاهما كلّ رجولة وكل سيادة.
من علّم الأسود المخصيّ مكرمة؟        أقـومه البيض أم آباؤه الصـيد!!
أم أذنه في يد النخّـاس دامـية!!      أم قـدره وهـو بالفلسين مردود؟

موقف واضح من الأعاجم كان من المفروض أن تلغيه عقليّة الإسلام السمحة.
وهكذا نفهم كيف انتقى أبو الطيب أبطال أشعاره رمزاً للبهاء فعلاً، ورمزاً للبهاء أصلاً.
إنّ فكر الانتصار يجعل من الرجل قادراً حتى لو كان منفرداً في عصر الهزائم والانقسامات. وبهذا الاستثناء الخارج عن وعلى القاعدة جسّم بطله سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف        كأنّك في جفن الرّدى  وهو نائم

وهذا ما يفسّر كذلك إعجاب الشاعر بدر بن عمار وتصرّفه مع الأسد، فكان الرجل الأسطورة التي لا تحدث دائماً:
أمعفـّـر الليث الهزبر بسـوطه        لمن إدّخرت الصـارم المصقولا
..
سبـق التقـاءكه بثوبة هـاجم         لو لا تصـادمه لجـازك ميـلا
خذلتـه قـوّته  وقـد كـافحته         فاستنـصر التسليـم والتجديلا
..
مـا كلّ من طلب المعالي  نافذا         فيهـا ولا كلّ الرجـال فحـولا

ومن يتبع جزءاً من أولى مدحيّات المتنبي في سيف الدولة يزداد تأكداً من تغلغل الحسّ الحماسي الملحمي الذي امتلك جوارح الشاعر فتواثبت لديه الصور تدور على نفسها في تناغم داخلي يحاكي دوران الجيش على الجيش والتحام الأبطال بالأبطال حتى تخترقك الكلمة بإيحاءاتها تفعل فعل الساحر في جلبه لأمجاد الأجداد عروبة وإباء واصرارا.
طبيعة متحرّكة صبحاً ليلاً وسيوفاً وقناً، تتآزر لتصنع المجد والسؤدد جناس وطباق ومقابلات وأطناب وتكرار.. صور تولّد صورا في لغة لا تعترف بخديل، في قدرة عجيبة على الإخصاب الذاتي:
فقد مـلّ ضوء الصبح  ممّا تغيره       وملّ سـواد الليـل ممّـا تزاحمه
وملّ القنـا ممّـا تدق صــدوره       وملّ حديـد الهند  ممّـا تـلاطمه
سحابٌ من العقبـان  يزحف تحتها      سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه

بهذا المستوى من الرؤى الشعرية تفرّد المتنبي فاغترب، وعاش حياة أبعد ما كون عن الهدوء والقرار. وتلك ضريبة الرجولة عندما تفرض على أصحابها ممّا عجزوا عن أن يتنكّروا للهويّة والانتماء، الانتماء الى اللّه إسلاماً والى الإنسان عروبة وفي تكامل أفقي عمودي بينهما نقطة التقادح والخلود: فالإنسان قبس من روح اللّه.

الحماسة في الشعر العربي

الحماسة في الشعر العربي
أولا : مفهوم الحماسة
الحماسة في معناها اللغوي :
مرادفة لمعنى الشجاعة والشدة والمنع والمحاربة ،ويدخل في معناها ما يقترن بذلك من معاني القوة والهياج والغضب ،وكل المعاني التي تتفرع مما يدعو إلى الحرب والاقتتال كإثارة النخوة والتغني بصفات المروءة والاحتمال والصبر والإباء والجرأة .
وعلى التوسع في معنى الحماسة قالوا :إنها الشدة في كل شيءٍ
ويبدو أن مفهوم الحماسة بمدلولها اللغوي الذي يدور في فلك الحرب وما يتصل بها
يكاد يكون هو الغالب الذي يعطيها معناها الاصطلاحي والأدبي :
على الرغم من أنها تعني عند المؤلفين العرب القدامى بعض المعاني الأخرى -إضافة إلى الحرب وما يتفرع عنها -فأدخلوا فيها كل المعاني التي تثير الحمية أو العاطفة في نفس الإنسان وتدفعه إلى الأعمال الجليلة ،حتى وإن كانت في غير ساحة الحرب .
وعلى هذا قامت مختارات أشعار الحماسة التي بدأها أبو تمام وسار على نهجه من جاء بعده
من المؤلفين ،إلا أن تسمية الحماسة لمصنفاتهم جاءت على سبيل التغليب ،حيث يتصدر باب الحماسة كل هذه المصنفات ،بينما لا تدخل الأبواب الأخرى في موضوع الحماسة ولا في
مفهومها 
الحماسة في العصر الجاهلي :
-وقد نشأت الحماسة عند العرب في عصرهم الجاهلي مرافقة للحروب والغزوات التي غلبت على حياتهم نتيجة للعصبيات القبلية :
إذ فطر العربي في بيئته البدوية القاسية على الشجاعة ,وحب القتال,والتعلق بالحرية , والإحساس العميق بالكرامة .
-وخلقت منه هذه البيئة إنسانًا ملتهب العاطفة متعلقًا بقيم إنسانية , رسختها في نفسه طبيعة أرضه وظروف مجتمعه , فكان يفخر بكرمه وجوده , وكان شديد الحفاظ على شرفه وعرضه وحماية جاره , يتبارى في ميادين
البطولة والمروءة مع أقرانه , ويتغنى بكل هذه المحامد في شعره , ليشيع ذكره مقترنًا بها في مجتمع القبائل
ومن أبرز هؤلاء الشعراء :

عنترة بن شداد العبسي
 

مسرح سعد الله ونّوس

مسرح سعد الله ونّوس
شاعت المسرحيات الاجتماعية في سورية في فترة الخمسينات، وبداية الستينيات، وقد اعتمدت تلك المسرحيات على الواقعية غالباً... ولكنها كانت واقعية انتقادية تقوم على تعرية الواقع؛ ومحاولة تسليط الأضواء على الأخطاء بعيداً عن الرؤية الحركية للمجتمع، فقد كانت تلك المسرحيات تنقل الواقع بشكله الثابت في غالبيتها من دون القدرة على رؤية ما يعتلج داخل هذا المجتمع أو رؤية الصراعات التي تنضج بين طبقاته. ففي تلك المرحلة "كانت البورجوازية الصغيرة ـ بحسب المصطلح الماركسي ـ هي التي تحمل عبء التطوير في البلاد؛ وبناء مدّها الثوري. وكان هذا الخليط الثقافي المتعدد المصادر والاتجاهات والمدارس يناسب البورجوازية الصغيرة التي كانت سائدة في ميدان السياسة والأدب؛ فكانت أفكارها وهمومها ومطامحها هي التي تطفح على وجه الأدب والأديب التقدمي حينذاك، هو المعبر عن طموحات الطبقة البورجوازية الصغيرة؛ ما دام المعبر عن طموحات الطبقة العاملة غير موجود، ما عدا ندرة لا يحسب لها حساب، غير أن سيادة هذه الطبقة لم تمنع من ظهور كتّاب انحازوا إلى الطبقات الكادحة فكانوا لسان حالها والمعبرين عن حركتها، والمبشرين بسيادتها. ولعلّ سعد الله ونوس واحد من أبرز هؤلاء...‏

ويمكن أن نقسّم مسيرة مسرح سعد الله ونوس إلى ثلاث مراحل تفرضها منهجية الدراسة للأدب المسرحي الذي أبدعه ونوس.‏



ـ كتب سعد الله ونوس في هذه المرحلة ثماني مسرحيات قصيرة هي "مأساة بائع الدبس الفقير.‏















وقد صدرت في مجموعة واحدة، سمّاها "حكايا جوقة التماثيل" عن وزارة الثقافة 1965(1).‏

تظهر بعض السمات في هذه المرحلة تميّز إنتاج سعد الله ونوس، وتجمع مسرحيات هذه الفترة من إبداعه من ذلك.‏











يغلب على مسرحيات هذه المرحلة الأسئلة الوجودية، وتغلب فكرة الحرية على أجواء المسرحيات التي أظهرت أن سعد الله ونوس ليس ماركسياً، بل أقرب ما يكون إلى الليبرالي... المتأثر بالماركسية.. وتجلى ذلك في مسرحية "جثة على الرصيف" التي حاول فيها توضيح الفرز الطبقي للمجتمع، فالمشكلة في وجود فقراء يموتون جوعاً، ووجود أغنياء، يستغلون من أجل رفاهم كل شيء. فجثة الفقير الذي مات جوعاً وبرداً ملقاة على الرصيف، أمام قصر رجل غني. يريد شراء الجثة لتكون طعاماً لكلبه الذي تشبث بالجثة بينما كان صاحبه ينزهه.. ويساوم المتوسل صديق الميت على ثمن الجثة، فإذا الفقراء مضطرون إلى بيع أنفسهم ـ أحياءً أمواتاً ـ ليتمكنوا من تأمين لقمة العيش، ويساعد الأغنياء على سلب الفقراء السلطة التي تمثّلت بالشرطي في المسرحية. ولكن الطرح الماركسي غير مكتمل في هذه المسرحية، فثمة ضبابية في الطرح والموقف، حيث لا يدرك المتلقي من الفقير غير أنه فقير ولا يمثل طبقة اجتماعية ـ عمال.. فلاحين مثلاً ـ والغني مجرد غني، يمتلك القدرة على شراء الفقراء.. كما عالج في هذه المرحلة، قضية أرّقته طويلاً، وسيكون لها حضور قوي في مرحلته الثانية، وهي قضية السلطة والجماهير... ففي مسرحية "مأساة بائع الدبس الفقير" ثمة بائع فقير اسمه "خضور" لا يدري ما يحاك لـه.. مما يؤدي إلى تدبير تهمة له من قِبل "حسن" لينزل عليه العذاب من كل حدب وصوب... ويشير ونوس بذكائه إلى ثبات بنية السلطة في الأنظمة القمعية.. حيث تتجلّى كل مرة في اسم جديد، بينما يبقى المضمون ثابتاً من خلال ـ اتخاذ الشاب اسم حسن ـ ثم ـ حسين ـ ثم محسن... ثم تنتهي المسرحية بعد أن يتهدج صوت الجوقة، دون أن نرى أفرادها.. وهي تقول:‏

"اندثر.. أندثر‏

وتحطمت تماثيل أخرى‏

وفي ضمير الساحة لا تزال حكايات لم تروَ‏

حكايات عن بائع البرتقال... عن بائع البصل‏

عن موظف مصلحة المياه عن طالب المدرسة.‏

عن حارس مصنع الكونسروة.. عن السكرتيرة الجملية‏

وطفل الحضانة لم تحمه الحداثة.‏

كلا.. كلا.. ليس نعاسكم ما يقتل في الحلوق الكلمات‏

لا تنسوا أن التمثيل تهشم وتضرب‏

الخوف.. الخوف والريبة.‏

صمتاً.. صمتاً.‏

ما نحن إلا تماثيل في الساحة‏

نحن الناس الذين كانوا "يسدل الستار" والذين ليسوا الآن.‏

هذه النهاية تؤشر إلى انشغال سعد الله ونوس بالواقع الاجتماعي والسياسي(2) في زمنه. انشغاله بالفئات البسيطة من الناس، وهي تشكل موضوعاً للقهر من قبل السلطة، بل للقمع.. وهي شخصيات قابلة للغياب، كما غاب خضور في ظل سلطة ظالمة. بينما يصمت الناس ممثلين بالجوقة "جوقة التماثيل" "صمتاً صمتاً" (ما نحن إلا تماثيل) لا نرى ولا نسمع، وإن فعلنا.. فليس ثمّة فعل نقوم به.. وفي ظل هكذا سلطة.. نحن الناس الذين كانوا.. ويريد أن يقول كانوا أناساً قبل هذه السلطة. بينما لم يعودوا كذلك الآن.. "والذين ليسوا الآن..".‏

"فالسلطة القمعية في مواجهة الفرد المستلب والقضية ترتبط بخلفية طبقية اجتماعية قبل كل شيء.."(3).‏

ولكن المواجهة في المثالين السابقين غير محددة؛ وضبابية؛ ولا تتوضح فيها طبيعة كل طبقة، بل طبيعة هذه السلطة وماهيتها، وقد أشار ونوس نفسه إلى أن هذه المرحلة، لم تكن محددة في فكره ومواقفه.. يقول: ".. المناخ الفكري والنفسي الذي ساد المسرحيات الأولى كان محصلة لفترة.. قلق نفسي وفكري.. كانت تصطرع في النفس نزعات ميتافيزيقية ورومانسية ووجودية.."(4).‏

وعندما تغيب الديمقراطية.. "لا يمكن أن يصل المهرج إلى كرسي الحكم بفضل جوقة من الانتهازيين الذين "ينفخونه" ويسبغون عليه الحكمة والعبقرية كما في مسرحية "لعبة الدبابيس" حيث لا يختلف "برهوم" عن "مشدود" لأنهما وجهان لعملة واحدة"(5).‏

كما عالج ونوس قضية العرب، قضية فلسطين التي سيعود إليها في بداية مرحلته الثالثة، عالجها في مسرحية فصد الدم التي حاول من خلالها أن يبتعد عن الإنشائية والتقريرية والخطابة ـ على عكس من سبقوه إلى معالجتها، بعيداً عن الاستجداء الميلودرامي والارتجال، حيث انطلق من رؤية عقلانية، فأعلن رفضه لمنطق التلاؤم مع الواقع الراهن، فجعل شخصية "علي" الذي يمثل التمسك والصلابة الوطنية ورفض كل ما من شأنه تكريس الخنوع والاستسلام للواقع، ينتصر على شخصية "عليوة" الذي يرى أن لابد من التكيّف مع الواقع الراهن الآن. ولابد من نسيان القضية برمتها.‏

كما قدّم في هذه المسرحية صورة للأنظمة العربية التي تتقاتل وتتذابح بينما يغيب الشعب عن المعادلة، يغيب عن ساحة الفعل في الحياة السياسية. وترتفع أجهزة الإعلام بالصراخ، تكيل الوعود والوعيد، وتستغل القضية للصعود على جثة القضية، كما تجسد ذلك في شخصية الصحفي..‏

"إن هذه المعالجة إذا ما أخذت بسياقها التاريخي ـ أي في ذلك الوقت ـ تعدُّ بحق متقدمة، إلى حدٍ بعيد لأنها تنطلق من رؤيا واقعية لا مكان فيها للأحداث المضخمة والبطولات الملفقة"(6).‏

إن المقدمات تؤشر إلى الخواتيم.. وهذا ما أراد أن يقوله في مسرحية "المقهى الزجاجي" التي تدور أحداثها في مقهى؛ وهو رمز للعطالة الاجتماعية ورمز للوطن الذي سيتهدم ما لم ينتبه أهله إلى الأخطار التي تتهدده وتصدّعه، والناس غافلون نيام، لا يكترثون، حتى للموت، بينما يتابعون تساليهم وألعابهم، وتابوت الميت يخرج من المقهى، فيكتفون بقولة "الله يرحمه" ثم يعودون إلى ما كانوا فيه من سرور وعدم انتباه، وكأنما كان ونوس يؤشر إلى ما حدث حقيقة في حزيران 1967.. حين تهدّم المقهى على رؤوس من فيه..‏

جاسم: لا تبتئس.. لستَ أول من تحل به الهزيمة.. وتذكّر أن الدنيا سجال.‏

أنسي: لا أتحدث عن هزيمة النرد.. هنالك ما هو أسوأ.. انظر.. أحقاً لا تراها وهي تنهال كالقذائف.. الزجاج يمتلئ شروخاً لا.. لنبذل مجهوداً.. لن ندع بنياننا ينهار فوق رؤوسنا.. لقد متنا.. إننا أموات.‏

انتبهوا أيها الأصدقاء.. تهشّم الجدار.. انهضوا قليلاً.. يجب أن نحاول؛ لابدّ أن نساند.. أتحسب أنه أقوى من الحجارة.. لن يصمد.. هي لحظات.. أيها الصديق.. قل.. ألا تسمعها؟!.. طق..طق.. طق"(7).‏

(وما كان من أهل المقهى "الوطن" إلا أن أخرجوا منذرهم ومحذرهم من الهزيمة والسقوط خارج المقهى.. خارج الوطن).‏

النادل: اهدأ يا سيد أنسي.. إني أستميحك العذر.. تلك فكرة المعلّم ظاظة.. أرجوك ساعدني قليلاً "يحمله بعنف، ويسر به.. بينما يلبّط أنسي بقدميه، وكلماته تتناثر".‏

أنسي: ليس عادلاً.. لنفعل شيئاً.. ستصيبني الحجارة.. سنموت.. اتركني.. لقد متنا.. إننا أموات.. أيقظهم.. مقهانا يتهدّم..‏

(تتوالى هذه الكلمة متخافتة حتى يسدل الستار). "يتهدم.. يتهدم.. يتهدم.."(8).‏

"في مرحلة ونوس الأولى.. حافظ مبدعها على تقديم نهايات مغلقة تقدم رؤيتها المتشائمة في الحياة العربية.. وحتى مع نهاياته شبه المفتوحة فهو يقدّم ذات الرؤية في صورة تساؤلات مجاب عليها سلفاً داخل العمل الدرامي ذاته. فالجماعة الشعبية التي حدقت فيها "ميدوزا" منذ أول نص له، قد تحجرت وتحولت إلى تماثيل تحتل الميادين العامة دون أن تعلب دوراً في حركة أحداثها. والمقهى بما فيه من بشر يلتقون يومياً وبشكل رتيب ويعبرون عن حالة من البلادة وإضاعة الوقت، فيما لا يفيد وهو ما يضيف للإدانة الونوسية للجماعة الشعبية.. وما زالت الجماعة عند ونوس متحجرة؛ حتى وهي تلعب طاولة النرد على المقهى، والموت محاصر لها بسبب عجزها عن الفعل وتغييب وعيها في نمطية الأداء اليومي.. انشغال الجماعة الشعبية باللعب، ليس فقط هروباً من واقع زاخر بالأحداث، وإنما أيضاً انشغالاً بأفعال لا مجدية تستغرق زمن الجماعة وتستهلكه فيما هو غير مثمر لذاتها، وغير دافع لحركة مجتمعها ومهمّش لدورها في التاريخ"(9).‏



أصبح سعد الله ونوس أكثر وضوحاً وتحديداً بعد هزيمة 1967.. التي استشفها في مرحلته الأولى، واتجه بكل قواه نحو التسييس، ليجعل من هذه القضية "التسييس قضيته الأولى في ممارسته المسرحية والتنظيرية للمسرح بعد الهزيمة. فبمقابل حالة الاستلاب التي يعيش فيها الجمهور، وحالة تعمّد أبعاده عن السياسة. يجب أن تطرح الحالة المضادة؛ أي يجب أن تُطرح قضية التسييس، ففي حواراً حول تجربته المسرحية، أجراه معه نبيل الحفار، يقول ونوس "بع عام 1967 كانت المعركة ملحّة بالنسبة للمسرح، وعلاقته بالسياسة، وكان واضحاً أن المسرح بوغتَ ومثله مثل الشعوب العربية، بهزيمة الخامس من حزيران 1967. وأنه قد تأخر كثيراً في الإجابة على أسئلة ملحّة.. إذن بعد 1967، طرحت العلاقة بين المسرح والسياسة بشكل حاد.. وكانت التجارب المسرحية السابقة على 1967 تتوهم أنه بالإمكان ممارسة تجربة مسرحية حدودها الفن، وحدودها تعميم خدمة ثقافية ما. عبر تقديم نماذج عشوائية وغير مترابطة من "ريبرتوار" المسرح العالمي، لذا كانت معركتنا الأولى هي: هل ينبغي أن يهتم المسرح بالسياسة أم لا؟‏

فهزيمة حزيران كانت شديدة الوطأة، وقد خلفت نوعاً من الصحوة الفكرية؛ في كل أوساط المثقفين، لذلك بعد أن صار ثمة إقرار بأن العلاقة وثيقة بين المسرح والسياسية، كان لابد من أن نواجه قول المسرح السياسي من خلال معايير سياسية: مدى تقدمية هذا العمل؟ وعمقه في طرح القضية، واستشراف الآفاق المفتوحة أمام الحلول أو مدى سطحية المعالجة وتفاهتها، وبالتالي تكريس ما هو متخلّف في الوعي السياسي السائد.. إذ لابد من المضي أعمق لتحديد هوية السياسية التي تبناها المسرح.."(10).‏

تبنّى المسرح السياسي. ولكن ليس أي مسرح سياسي، بل المسرح السياسي التقدمي.‏

وقد وضّح هذا المفهوم من خلال توضيحه لمفهوم التسييس.. بحيث يصبح المسرح حوار بين مساحتين، الأولى هي ما يعرض فوق خشبة المسرح، والثانية هي جمهور المتلقين، المتفرجين في الصالة، والمساحة الأولى يجب أن تعكس ظواهر الواقع ومشكلات المساحة الثانية، ليقوم حوار مرتجل، ومتدفق وحقيقي بين المساحتين.‏

"يتحدد مفهوم التسييس من زاويتين متكاملتين.. الأولى فكرية وتعني أننا نطرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأننا نحاول في الوقت نفسه استشفاف أفق تقدمي لحل المشكلة.."(11).‏

"والثانية فنية من خلال هدم العلاقة التقليدية الساكنة بين الصالة والخشبة، لإقامة علاقة جديدة يندغم فيها الممثل بالمتفرج في جوٍّ من الإلفة والصراحة؛ بحيث تتقوض الحواجز، ويحلّ الحوار بينهما، بدلاً من علاقة المرسل والمتلقي"(12).‏

فلا يكفي من وجهة نظر ونّوس أن تطرح القضايا السياسية على المسرح حتى يصبح سياسياً، بل يجب أن تطرح من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، ومثل هذه المعالجة تحاول فهم آلية الواقع، لكشفه ولتعرية القوى التي تعيق تقدّمه؛ ولإدانة الأنظمة الفاسدة المسؤولة عن تكريس ما هو متخلّف ورجعي. كل ذلك يجب أن يتم من خلال رؤية متكاملة ومعالجة تقوم على خلفية نظرية واضحة في ذهن الكاتب ـ دون إغفال لجانب المتعة الفنية. فالتعبير بحرية وصراحة عن الآراء السياسية، يمكن أن يكون تعويضاً باهراً.. فالمسرح من خلال جماعيته وعمله الذي يتعلّق باليومي. وذي العلاقة بالحاضر والمباشر مع الناس، إنما يعطي الوهم بنشاط أو بعمل سياسي.. إذن يجب تسييس المسرح للتواصل مع المتفرج ومحاورته وتبصيره بقضاياه الأساسية.. وحثّه على اتخاذ القرارات والمواقف منها. وهكذا كما يقول ونوس "يجب أن نشحن لا أن تفرّغ".‏

"تمثل هذه المرحلة انعطافاً نوعياً في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية للنص. حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر الوجود، إلى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيمياً. من وعي الحرية بوصفها جوهر الكائن إلى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من وعيها بوصفها وضعاً أنثولوجياً، إلى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق اكتمال الوجود بالقيمة... وذلك لا يتم إلا بالغوص في حمأة الواقع وأسئلته الشائكة التي توحد مساحتي الوجود.. العرض المسرحي وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم وأشواقهم"(13).‏

فالمسرح إذن تجمع سياسي تطرح فيه المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، وتُناقش. وهذا ما يستدعي بالضرورة إلغاء المفهوم التقليدي للشخصيات ـ الأبطال ـ فثمّة أصوات وملامح من وضع تاريخي معيّن، وأهمية الأفراد تتحدد من خلال التفاصيل أو الخطوط التي تضيفها على الوضع التاريخي العام فيصبح المسرح بهذه المثابة أداة تغيير، وليس أداة تكريس لما هو سائد، وهو إضافة إلى ذلك ـ بحسب قول ونوس ـ في مقدمة مسرحيته: "مغامرة رأس المملوك جابر.." حوار بين مساحتين: العرض المسرحي وجمهور الصالة، حيث يكون الارتجال الجريء. سمة رئيسية، من سمات هذا الحوار، مما يقوّي الإحساس بوحدة المصير المشتركة بين الفرقة المسرحية وجمهور الصالة.‏

شكّل هذا مجموعة الأفكار الرئيسية لفكرة تسييس المسرح لدى سعد الله ونوس. إنها تشكل في مجموعها رؤيا للمسرح على المستويين الفكري والفني، بدونها يصعب أن ندخل إلى عالم سعد الله ونوس المسرحي في المرحلة الثانية. حيث ظهرت هذه الرؤيا في مجمل مسرحياته التي أنتجها بعد هزيمة حزيران 1967.. ولعلّ أشهر هذه المسرحيات وأكثرها إثارة للجدل.. مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران.." التي كتبها عام 1967، فكانت ردّة فعل ملتاعة ومريرة، ودعوة للالتفات إلى الواقع وما يحدث فيه حيث أعمل ونوس مبضعه في تعرية الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن الهزيمة، كما طرح قضايا البسطاء الذين تضرروا حقاً من الهزيمة وسمى الأشياء بأسمائها الصريحة.. كلّنا مسؤول عن الهزيمة..‏

"كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" حيث في هذا النص يؤسس سعد الله لفكرة "الحوار والمشاركة" ليس عبر الرسالة المعرفية والأيديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، إذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة لتدمير معرفة السلطة التي قادت إلى الهزيمة. دافعاً بجمهور العدالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم.."(14).‏

ركّزت كثير من الآراء التي ظهرت عقب عرض هذه المسرحية على أنها عمل يقوم على تعذيب الذات، وجلدها، وفضح الأخطاء، فترسم صورة شديدة القتامة لا يمكن أن تكون معها ذات رؤيا اشتراكية. ولكن مثل هذه الآراء تظلمها لأن هذا العمل يساير منهج ونوس في التحريض وعدم المطامنة، فونوس يطالب بإزاحة هذه الأوضاع المزرية التي أدت بنا إلى ما نحن فيه، إلى الهزيمة. هي دعوة إلى تجاوز الارتجال في عملنا. ورد الفعل، إلى الفعل المنظم الذي تجسّد في تلك الشخصية من شخصيات حفلة سمر التي تحمل حلماً.. وتحمل بندقية وتجوب الأرض.. وصاحبها يعانق بندقيته كابنه الوحيد، ولا يلبس ثياب الجنود..‏

إن ونوس لا يغلق الأفق نهائياً، ولكنه يقسو ليكون وقع التحريض أقوى، ولا نبالغ إذا ما قلنا: إن النجاح الجماهيري الذي حققته هذه المسرحية، لم تحظَ به أية مسرحية جادة حتى حينه في إطار المسرح العربي. وإن النقاشات الساخنة التي أثارتها في حينها، لم تُثرها أية مسرحية عربية أخرى.. إنها كما يقول الناقد محمود أمين العالم: "من أنضج مسرحياتنا العربية المعاصرة عامة، سواء من حيث البناء الفني أم المضمون.."(15).‏

طرح ونوس في هذه المسرحية سؤالين صعبين بقدر ما هما جوهريان وأساسيان من نحن؟ ولماذا..؟‏

وضع ونوس أمامنا مرآة كبيرة، بحجم الهزيمة التي لحقت بنا، وقال لنا" انظروا من نحن، تعالوا نتعرّف على حقيقتنا من غير أقنعة أو تهويل أو تزييف. إن أية مجابهة مع العدو سوف تنهار وتتداعى إذا لم تقم على أرضية صلبة، بمعنى آخر ـ إذا غاب الشعب، وهو صاحب المصلحة الحقيقية، وصاحب الدور الريادي في كل معركة، فلن تكون المؤسسات والدوائر الرسمية قادرة على عمل شيء.. ستقف عاجزة مشلولة لا تقدر على الحركة.. استطاعت مسرحية "حفلة سمر" أن تفجّر جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية دفعة واحدة، وأظهرت ترابط هذه القضايا وتداخلها من منظور تقدمي.. ومن خلال مناقشة عميقة للبنى التي أدت إلى الهزيمة. كما قدّمت مثالاً تطبيقياً، شكلاً ومضموناً لوظيفة المسرح ودوره، عبر تسييسه كما أراده ونوس أن يكون.‏

وإذا كانت "حفلة سمر..." قد عالجت الواقع عبر حكاية معاصرة وبشكل مباشر فقد اعتمد ونوس في تثبيت مفهوم التسييس في هذه المرحلة على مسرحيات أخرى. اتخذت من الإبعاد الزماني والمكاني وسيلة فنية، فاعتمدت على التراث، سواء كان شعبياً أم تاريخياً.. للسعي إلى استقطاب قطاعات واسعة من الجمهور، غير عابئ بالصيغة المسرحية المستقلة، باحثاً عن صيغة جديدة ـ قديمة. مألوفة في المجتمع العربي ـ كالراوي مثلاً ـ والمقهى والقصاص، والحدوتة.‏

ومن خلال الإبعاد الزماني والمكاني، يقيم جسراً بين ما يعرض بزمنه الماضي.. وما يحدث، لخلق توازيات تضيء الحاضر.. ومن هذه المسرحيات مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" 1971، وقد عرض من خلالها لمشكلة السلطة وعلاقتها بالشعب، وعلاقة الشعب بها.‏

(فزكريا) يحرض جماعة الناس لتثور ضد استبداد السلطة، بعد أن عمل على إيقاظ وعيهم، وتبصيرهم بما يحدث حولهم من مظالم واستبداد.. ولكن استكانة الناس أمام جبروت السلطة وأبّهة الملك تجعل الجميع يخرجون منكّسي الرؤوس، متوافقين مع قيودهم واستكانتهم للعبودية.. ثم يعلن الممثلون في ختام المسرحية. أن لا حرية في ظل الحكم الاستبدادي.. وأن الاستكانة والمطامنة ستجعل الفيلة تتكاثر لتتكاثر بعد ذلك الدماء المسفوحة.. "إنها عندما تتكاثر تبدأ حكاية دموية عنيفة"(16).‏

تابع موضوعة السلطة في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر.." 1971. فالسلطة منقسمة على نفسها، وظالمة للرعية، وبالمقابل هناك الشعب المظلوم والخائف، تمثله جماعة من الرجال..‏

إن أجواء التناحر على السلطة في مجتمع يقوم على الاستغلال. ستفرز بشكل طبيعي الانتهازيين "المملوك جابر.." الذين يسعون وراء المال والربح السريع والمجد والنساء.. فالمملوك جابر لا يهتم للصراع القائم بين الوزير والخليفة، ولكنه عندما وجد ثغرة يستطيع النفاذ منها لتحقيق مصالحه، تحركتْ انتهازيته وبدأ اهتمامه. فتقدّم باقتراح إلى الوزير يجعله ينفذ خطته في استدعاء أعداء البلاد لنصرة الوزير.. ثم ينال هو العطايا والمزايا..‏

كما ربط ونوس في هذه المسرحية بين معاناة الشعب جرّاء السلطة الفاسدة المنقسمة على نفسها، فلا تهتم بأن تسرق من الشعب قوت يومه أو تستدعي أعداء البلاد وتفتح لهم الأبواب وبين سلبية هذا الشعب وعدم قدرته على الفعل. وبين صعود الانتهازيين، واستمرار عسف السلطة وقمعها. كما طرح موضوعة لا مبالاة الجماهير وسلبيتها.. وهو موضوع أثير لديه، فلا مبالاة الناس وسلبيتهم وعدم اهتمامهم بما يحدث حولهم. سوف يجرّهم إلى الدمار والخسران. حتى على الصعيد الفردي.. فتراه دائم التأكيد أن ما يجري في المجتمع مهم للجميع، وعلى الجميع أن يعيه وينخرط فيه ليؤدي دوره الفاعل، وإلا حلّ البلاء. وقد طرح هذا الموضوع في كثير من مسرحياته: "المقهى الزجاجي ـ مغامرة رأس المملوك جابر ـ الفيل يا ملك الزمان"، كما أفرد لهذه الفكرة مسرحية كاملة اقتبسها من "بيتر فايس" هي مسرحية "رحلة حنظلة". وهذا ما يجعلنا نلاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرحه. وهي شخصيات في غالبيتها خانعة مستلبة خائفة مشتتة أو انتهازية لا تحمل من المبادئ ما يبث بارقة أمل في الخلاص. وقد يُظن من خلال ذلك أن "ونوس" لا يحمل رؤية متفائلة، ولكنه يرى غير هذا، وينظر إلى المسألة من خلال علاقة المسرح بالجمهور، ومن خلال الفعل الذي تمارسه المسرحية على جمهور المتلقين. هل تمنحهم الرضى والمطامنة؟ وهذا ما لا يرضى عنه أم تحرضهم وتدفعهم للفعل، واتخاذ المواقف الإيجابية؟. يقول: كان مهماً بالنسبة لي دائماً، وفقتُ أم لم أوفّق ـ لكن هذا ما كنتُ أريده، أن أبني وعياً لا أن أُعطي وعياً جاهزاً، وبناء الوعي يتم عبر السلب، تأخذ عيباً من العيوب وتضخّمه، وتظهر عقابيله وآثاره، وتكون بذلك قد قدمت أمثولة أو درساً تطبيقياً لهذه الحالة، ويجب ألا ننسى أن المسرح في النهاية هو عملية جدل، وأن الخلاص ليس فيما يُطرح على الخشبة فقط. وإنما فيما يتمخّض عنه الجدل بين الصالة والخشبة..‏

إن تفاؤل العمل أو تشاؤمه، لا ينبع من مدى احتوائه على شخصيات إيجابية متفائلة أو سلبية متشائمة. وإنما يتم ذلك من خلال مجمل العمل وبنيته. هل يسير هذا العمل نحو أفق مسدود تشاؤمي أم أنه يشير إلى أن هناك أفقاً آخر، شرط أن تبدّلوا عاداتكم في التفكير والسلوك والنضال. وبهذا المعنى رأى أن هذه الأعمال إيجابية أكثر بكثير مما لو وضعتُ فيها شخصيات متفائلة وبطولية تقلب معادلة المسرحية وتحقق انتصارات على الخشبة، وتوزع انتصارات وهمية على المتفرجين.."(17).‏

في مسرحية "الملك هو الملك" يحاول ونوس فضح أنظمة التنكر البورجوازية ـ كما يقول ـ فيعالج قضية الحكم بصورة أكثر نضجاً وعمقاً. فالحاكم الفرد المطلق الذي يحتجز بيده كل السلطات يستمد قوته من الرموز المحيطة به، ومن القوى التي تقف خلفه للحفاظ على مصالحها "شهبندر التجار" أو "الشيخ طه.." والحاكم ليس إلا تجسيداً رمزياً لهذه القوى، وليس شخصه مهماً ما دام النظام قائماً، ولا يعني استبداله. شيئاً ما دامت القوى والنظام لا يزالان قائمين..‏

إن الاعتماد الكبير على التراث، عدا بعض المسرحيات في هذه المرحلة ـ قد ميّز إبداع ونوس في مسرحيات المرحلة الثانية. فالحكايات الماضية تشكل المادة الأولية للمسرحية ليطرح من خلالها القضايا المعاصر. الاجتماعية والسياسية التي يريد تناولها فيعالجها من خلال مفاهيم عصرية. تعالج قضايا المجتمع الراهنة لتحريض المتلقي ليتأمل واقعه، فيشارك مشاركة إيجابية فيما يدور حوله من أحداث تمسّه وتتعلّق بمصيره، ويبيّن ونوس أن عقابيل الاستسلام للواقع المريض، أخطر بكثير من أعباء النضال من أجل محاولة تغيير هذا الواقع.‏

"المرأة الثانية: وماذا نفعل إن انطبقتْ أبواب السجون على أحبتنا؟.‏

الرجل الثالث: وتعوّدنا تغيّر الأوضاع.‏

الرجل الثاني: وتعاقب الخلفاء والوزراء.‏

المرأة الثانية: وقتل الرجال لأتفه الأسباب.‏

المرأة الأولى: وغياب رجال لكذبة أو وشاية.‏

الرجل الثالث: ما لنا نحن وشؤون السادة..."(18).‏

اهتمت مسرحيات هذه المرحلة بموضوع السلطة والجماهير وقد رمى ونوس عبر هذه المسرحيات بالأسئلة والإجابات كلها.. باحثاً بغضب ولوعة عمّا يربط الإنسان بالوطن، والوطن بالإمكانية التي تدافع عنه، ولأنه كان يشتق أسئلته من التاريخ، ويجانب الأسئلة العابثة لتوليد الأسئلة الجديدة. التي تحاور الهزيمة لترد عليها.. ولتبعد شبحها عن الوجود العربي. ولذا فإنه عاد إلى الإنسان ولكن بصيغة جماعية هذه المرة سائلاً عن النصر والهزيمة وشروطهما، وعن أحوال المحكومين والحاكمين. طارحاً مسألة "التسييس" التي رأى من خلالها أن مآل الإنسان في وعيه ومآل وعيه في فعله، ومصير فعله فيما يميّز من أفعال الحاكمين" ولا يمكننا أن نمر في هذه المرحلة دون التعرّض لمسرحيته "سهرة مع أبي خليل القباني" التي كتبها تكريماً لهذا المبدع الرائد المسرحي السوري، دون أن تخرج عن إطار مسرح التسييس. فالقباني ابن عصره وبيئته، ولا يمكن فصل تجربته المسرحية، عن الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي السائد في تلك الفترة. إنه رائد دفع ثمن ريادته، صارع عقولاً متحجّرة، كانت ترى في الفن الجديد، ضرباً من الكفر والإلحاد، ونوعاً من الفسق والفجور. ولكن ونوس يؤمن بحركة التاريخ، ويؤمن بانتصار الجديد التقدمي على القديم الرجعي إيماناً قاطعاً.‏



صمت سعد الله ونوس ثلاثة عشر عاماً أو يزيد.. قضاها في المراجعة والتأمل ليكتشف أن المشكلة أعمق. وأكثر تعقيداً من علاقة سلطة/ مجتمع. بل إن هناك تركيباً ثلاثياً ـ ربما ـ يجب أن يغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافه، هناك بنى اجتماعية متخلفة جداً، تتجاور وتتساوق زمانياً مع بنى اجتماعية حديثة، حداثة شكلية. مما يشكل قطيعة وفصاماً في المجتمع,. إضافة إلى غياب أي تساوق، أو أي مشروع مستقبلي، يمكن أن تقوم به دولة عصرية، لا تتعادى فيها السلطة مع المجتمع، بحيث تهمّش السلطة مجتمعها. وتجبره على العودة في آلية دفاعية سلبية إلى بناه التقليدية والأخلاقية القديمة.‏

بدأ ونوس في كتابته الجديدة. ومرحلته الجديدة فكرياً وفنياً، يبتعد عن متفرج واجب الوجود. ليقنع بوجود متفرّج محتمل.. متفرج يقرأ عليه سعد شيئاً من حكايات التاريخ، تاركاً له حرية الإدراك والتأويل.. وهو في هذه المرحلة، كتب مسرحية مضيئة تاركاً لطرف آخر بعيدٍ عنه تحديد ملامح الجمهور المسرحي، وإمكانية عرض المسرحية، والعثور على المسرح الأكثر ألفة مع جمهور قادر على التأويل والفهم. بدأ يُعيد الاهتمام بمقولات المواطنة والعقل المستنير، والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وكان يستأنف فعلاً ثقافياً تتبادل فيه الأفكار والقيم المواقع من دون خصام، ويعمل على ترهين التاريخ وتجديد أسئلته.‏

عاد سعد الله ونوس إلى الكتابة بغزارة ونَهم. فأنتج عام 1989 مسرحية الاغتصاب التي أعاد فيها معالجة المشكلة الفلسطينية من خلال استفادته من نص الكاتب الإسباني "بويرو باييخو" الذي بعنوان: "القصة المزدوجة للدكتور بالمي..".. وقد تمّ عرض هذه المسرحية في بيروت عام 1993، وأخرجها المخرج جواد الأسدي..‏

تعمق ونوس في هذه المسرحية قضية الصراع العربي الصهيوني، حتى وصل إلى أنه صراع بين مساحتين لا يمكن أن يلتقيا فالأرض ضيقة كالقبر ـ على حد تعبير بطلته المغتصبة دلال ـ فلا يمكن أن تتسع لنا ولهم.. وهذا هو موقف إسماعيل الذي فقد رجولته إثر العذاب الذي لاقاه على يد الوحوش الصهاينة، بحيث بات مقنعاً أن إمكانية التعايش.. ليست ممكنة، هذه الوحشية جعلت الإنسان في داخل بعض الصهاينة يستيقظ فيقوم طبيب إسرائيلي بمداواة جراح الأسرى وتتحوّل راحل إلى مناضلة في سبيل القضية الفلسطينية.‏

ثم صمتَ ونوس مرّة أخرى عرف خلالها بمرضه العضال.. ليعود إلى الكتابة بغزارة وتحدٍ، فكتب على التوالي "منمنمات تاريخية" 1994، و"طقوس الإشارات والتحولات" 1994، ومسرحيتي "يوم من زماننا" و"أحلام شقية" في كتاب واحد 1995 ثم ملحمة السراب" مطلع عام 1996، وأخيراً قدم قبل وفاته بشهر مسرحية "الأيام المخمورة" 1997. إضافة إلى مجموعة نصوص "بلاد أضيق من الحب" عن الذاكرة والموت 1996، ولا تعود القضية إلى مجرد الخصب العددي في وتيرة الإصدارات، بل تعود إلى كون هذه المسرحيات تشكل مرحلة جديدة نوعياً ومتمايزة فنياً وفكرياً في مسيرة مسرح سعد الله ونوس، سواء من حيث العمق الإنساني والفردي للشخصيات وتلاوينها وتنوّع أحوالها وتناقض حالاتها وتحولاتها، أم من حيث التركيب المدهش والتدامج الجدلي بين تواتر المشاهد وتسارعها. وبين بانورامية المدى الشاسع في فضاءات الأمكنة وفضاءات الأحداث إلى حشود من تصارع الشخصيات وتشابك الوقائع وترابطها.‏

وسنجد في هذه المرحلة تنوعاً في الأجواء والأحداث المستمدة من عدّة أزمان من القرن التاسع الهجري "منمنمات تاريخية"، التي يعرض فيها لغزو التتار لبلاد الشام ولحصار دمشق، ولشخصية المثقف العربي ممثلة بشخصية ابن خلدون. إلى القرن التاسع عشر الميلادي "طقوس الإشارات.." إلى أيامنا الراهنة، "يوم من زماننا ـ أحلام شقية". إلى المرحلة الشرسة الحاضرة الآتية في إطار إفرازات النظام العالمي الجديد "ملحمة السراب..".‏

إن ثمة ملامح عامة تظهر في كتابة هذه المرحلة لدى سعد الله ونوس. ومنها: الخروج على الأطر التي كانت تضبط الكتابة لديه، بكل مكوناتها، من عملية التأليف بالمعنى الحرفي إلى طبيعة الموضوعات التي تتطرق إليها الكتابة، فالكتابة هنا توسع هامشها لتتحرر من الشكل والكليشات، على الرغم من أنه لا يزال يستخدم تسمية "مسرحية" ليصف إنتاجه، إلا أن المسرحي فيه قد تحرر من هاجس "العرض" بينما يطغى القالب الروائي السردي في هذه الأعمال.. منذ "الاغتصاب" وبدت الموضوعات المطروحة أكثر شمولية وتنوعاً، تجمع بين الخاص الذاتي والعام، وتحاول أن تربط بينهما. واللافت للنظر أنه ـ لأول مرة ـ في مسرح ونوس تظهر أهمية الإنسان الفرد "الإنسان العادي أو الإنسان الصغير، أستعير هنا تسمية بريشت" كشخصية لها قوامها الإنساني، وهذه الشخصية المعبّرة عن الإنسان العادي تأخذ حيّزاً واضحاً في المسار الدرامي، لا بل تؤثر به "شخصية ماري/ غادة في أحلام شقية"، "شخصية "فاروق" في يوم من زماننا" و"ألماسة" في "طقوس الإشارات والتحولات". فبغض النظر عن قيمة اهتماماتها وتركيبتها فهذه الشخصيات تسمح لمبتكرها أن يطرح إشكالية هامة، هي إشكالية "الفعل" وجدواه. هل يمكننا أن نغيّر حياتنا؟.. هل يمكننا أن نغيّر العالم.‏

ملمح آخر لافت في إبداع هذه المرحلة، وهو ظهور الحالة النفسية التي لا يمكن فصلها عن المناخ العام الذي تعيشه الشخصية. وهذه السمة موجودة في أغلب المسرحيات الأخيرة بنوعيها الدرامي والملحمي السردي.‏

مدير المنطقة: هذا الرجل الذي باركه الأخ جلال ووهبه خصيتين. تفضّل يا أستاذ (يتناول علبه سجائر ويقدّم سيجارة لفاروق).‏

فاروق: (وهو يمد يداً ترتعش..) أنا لا أدخّن، أقلعت عن التدخين منذ سنة، لكنّي اليوم أحتاج إلى سيجارة.‏

مدير المنطقة: دخّن يا أستاذ (يشعل سيجارة بولاعة من ذهب) ومهما كان التدخين مضراً فإن الضغوط العصبية والقلق أشد ضرراً وفتكاً بالإنسان(19).‏

وبغض النظر عن البُعد النفسي للشخصية فإن أهمية هذه المسرحيات تكمن في أنها لا تبسّط العلاقات مهما كانت طبيعتها، ولا تُعطي أجوبة بقدر ما تطرح أسئلة. فالطرح هو الإشكالية التي تعني الكاتب والقارئ معاً. فموضوع كل مسرحية يأتي على شكل سؤال أو أسئلة "المنمنمات.. الطقوس" أكثر منها أجوبة. فالمشكلات تُطرح بتعقيدها، والمشكلة أو القضية المطروحة مهما كانت طبيعتها تطرح ضمن علاقة ما. هي جزء منها لأن الأمور معقدة.. ومعقدة جداً.‏

وفي هذا يتشابك ما قد يبدو ثانوياً ويتقاطع مع ما هو معترف به على أنه أساسي، ويكون تلمس تراكب العلاقات وتشابكها هو الجديد والهام، في هذه المرحلة.‏

يلخص سعد الله ونوس ملامح تجربته الجديدة خلال لقاء أجري معه ونشرته مجلة الطريق. يقول: "لنتفق على نقطة، انقطعت عشر سنوات عن كتابة المسرح، خلال هذه السنوات العشر التي تبددت في سراديب الاكتئاب كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، وكذلك مراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني على امتداد الوطن العربي. وفي هذه المراجعة وجدت أني لم أركّز بما فيه الكفاية على تخلّف البنى الاجتماعية في بلادنا، وإني لم أربط إلا بشكل هامشي بين تخلّف هذه البنى، وبين نمط السلطات التي أنعم التاريخ علينا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كان عليَّ أن أكتشف أيضاً أن المشروع الوطني بما يعنيه من تحرر وتقدّم وحداثة لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجاتنا الملحة للحرية، ولقول "الأنا" دون خجل.. بل بالعكس، إن هذا المشروع الوطني، لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفتحت هذه "الأنا" ومارست حريتها وقالت نفسها دون حياء ودون مراءاة أو تعوّذ. كنا ساذجين في فهم الجماعة والعمل الجماعي. كنا نتخيّل هذه الجماعة أفراداً لهم وجوه واحدة وأمزجة واحدة. وكنا ننفر من الاستثناء والتفرد. ناسين أو متجاهلين أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية لا مجرد جمع من الأرقام والوجودات الفارغة.."(20).‏

أخيراً. لابد من وقفة عند الكلمة التي كتبها ونوس لتقرأ في جميع أنحاء العالم في يوم المسرح العالمي، ولابد أن في اختيار ونوس لكتابة هذه الكلمة تكريماً للمسرح العربي.. وللمسرحيين العرب.. فكتب وكانت كلمة شهادة رجل مسرح حقيقي.. حمل الهم المسرحي والهم الإنساني والوطني والفكري والحضاري شهادة في الفكر والثقافة والفن والسياسة. حين أكد فيها على أهمية الحوار بين الجماعات "هذا الحوار الذي يقتضي تعميم الديمقراطية واحترام التعددية. وكبح نزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء.. إني أتخيل أن هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتماوج متسعاً ومتنامياً حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوّع ثقافاته...".‏

كما أكّد فيها أن "المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموّه وازدهاره" إنه ظاهرة حضارية مركّبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها".‏

وبعد أن تحدّث عما يحدث في العالم الآن من حيف وظلم على الشعوب الفقيرة، ختم كلمته "إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".‏
1 ـ المرحلة الأولى: البدايات ما قبل الخامس من حزيران 1967‏ 2ـ الرسول المجهول في مأتم انتيغونا.‏ 3ـ جثة على الرصيف.‏ 4ـ الجراد.‏ 5ـ المقهى الزجاجي.‏ 6ـ لعبة الدبابيس.‏ 7ـ فصد الدم.‏ 8ـ عندما يلعب الرجال.‏ 1 ـ وضوح أثر الثقافة الغربية.. والمسرح الغربي.‏ 2 ـ ضبابية الرؤيا من حيث عدم وضوح الموقف، من قضايا كثيرة حاول معالجتها.‏ 3 ـ شيوع التجريد، واللجوء إلى الترميز المتعمّد.‏ 4 ـ عمومية الموقف وعدم تحديده بشكل واضح تجاه قضايا كثيرة، وعلى الأخص، قضية السلطة، وقضية ممارسة القمع على البسطاء، التي حاول معالجتها في "بائع الدبس الفقير...".‏ 5 ـ عدم وضوح الموقف الطبقي وبقاؤه في أضعف تجلياته في إبداع ونوس في تلك المرحلة، وقد تجلى هذا في "جثة على الرصيف".‏ 2 ـ المرحلة الثانية، ما بعد حزيران 1967:‏ 3 ـ المرحلة الثالثة:‏


منقول





وعي الهزيمة

 قراءة في أعمال سعد الله ونوس المسرحية



:*-* ماذا تعني الكتابة عن مؤلف مات بعد أن ترك مجموعة من الكتب تتفاوت أهميتها بين كتاب وكتاب، أو بين قارئ وقارئ؟ هل يعني ذلك أن سعد الله لم يزل لديه ما يقوله؟ أم يعني ذلك أن كاتباً مسرحياً آخر لم يلفت الانتباه بعد فيمكن الحديث عنه ويؤجل سعد الله الي وقت مستقطع بين الأوقات الفاعلة في مسيرة الابداع العربي؟
أسئلة كثيرة ومكررة، وقد لا تلقي أجوبة حاسمة طالما أن الواقع العربي وتجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، هو علي هذا الفوات الحضاري الذي يدمي العين والأذن واللسان، لا ديمقراطية، لا مستوي معيشيا مقبولا، لا وعي بما جري أو يجري، أو الي أين يمكن الوصول؟ هي أسئلة سعد الله ونوس علي أية حال، واستعادتها هي تأكيد آخر علي فشل أجوبته، أو بالأحري علي هزيمة الكتابة في مجتمع لا يقرأ، لأنه ببساطة لا يريد أن يعرف، لأنه ببساطة وجد أن أيّاً من جاهر بمعرفته وأراد أن يساهم بها في حراك أمته، لترقي الي مستوي امكانياتها، مات بالسوط أو بغيره.
استعادة الموت، نبش القبور، الدخول الي السجون، تلقي الصفعات والركلات والهزائم، الاصغاء الي النحيب والآلام، الي المؤامرات والدسائس، الخيبة والندم تحديداً، هو كل ما يمكن أن يجنيه المرء من قراءة ثانية وثالثة ورابعة... أولي وأخيرة لأدب سعد الله، أقول أدباً وأقصد ذلك، فقط ليمكن الحديث ويتشعب ويمتد امتداد حكايات هذا الواقع ووقائعه التي يستعيدها علي شكل شخوص هي غالباً أشباح تتحرك في دواخلنا، في ذاكرتنا، نتنفسها مع الهواء ونشربها مع المياه، أكثر مما نعايشها أو نعيشها في أفكارنا ورؤانا وأحلامنا، لذلك تبدو غريبة حيناً ومستحضرة حيناً، ولكنها هي من يصوغ وجودنا ويدفعه الي هذا الخراب الذي نتبرأ منه طالما هو بدوره يرفضنا، يرفض ما نفكر فيه، وبالتالي يرفض كل ما يمكن أن نقوله له.

ـ 1 ـ أراد سعد الله أن يحتال، أن يظهر ذكاءه، دخل في مسامات هذا الواقع، في وحوله وهزائمه، وأخذ يكتب منذ البداية كان يعرف أنه يكتب أكثر مما ينشئ مسرحاً، فهو يعرف أن الذين يكتب لهم تعودوا علي السماع، علي التقاط الهمسات أكثر مما تعودوا علي المكاشفة، وربما كان يعرف أيضاً أن لا مسرح بلا كتابة، ولا كتابة مسرحية بلا أدب، بل هذه الكتابة دائماً أرادت أن تكون شعراً، أو اعتقدت ذلك، حتي بدا كما لو لم يكن لدي سعد الله أسئلة مسرحية، كان لديه هاجس أن يعبّر، أن يفضح، أن يشير الي موضع الألم.
كانت همومه في البداية كبيرة بحجم هذه الـ ميدوزا التي تحدق في الحياة بما يعني قلقاً وجودياً مبكراً وخطيراً. لكن من يصغي؟ من يفهم؟ والشعب الذي يكتب له هو شعب مقموع ببدائية، وجائع حتي لرغيف الخبز، فما الذي يعنيه أن تنتصر الآلة ـ الجسد، وينهزم الكمان ـ الروح؟ أو تنتصر الشهوة الحيوانية المبرمجة عقلياً وينهزم الحب بتجلياته الفنية والحسّية ـ بتأويل آخر لهذه المسرحية ـ؟ أسئلة ربما جاء بها سعد الله من عالم حديث ومتقدم، من لغة أخري ليس لديها مشاكل بسيطة مثل هذه التي نعيشها، بمعني ليس الاغتراب أمام الآلة ما هو ملح الآن، ماهو الملح اذن؟ حاول أن يطرح سؤالاً وجودياً آخر، ربما يجعله يقترب من واقعه، ومن الكون الذي يفكر به أو فيه أو من خلاله، فيكتب المقهي الزجاجي لكن لا فائدة أيضاً فنحن لا نصنع الزمن كي يؤرقنا بل مجرد التفكير في ذلك يعني خطيئة عقوبتها النفي والالغاء. لذلك أخذ سعد الله يستعير أفكاراً من أزمنة وأمكنة قديمة ويحاول صياغتها بالواقع المتخلف الذي نعيشه، فكر بالظلم المطلق، بالحظ العاثر، بالغبن الذي يشعر به الشقيق الأصغر تجاه أخيه الأكبر ومردوداته النفسية فكتب مسرحيته الجراد .
فكر بالفقير الذي يموت جائعاً مشرداً علي الرصيف ولا يجد من يدفنه سوي عابر ثري يأخذ جثته ليطعمها لكلبه الجائع، كما تحكي مسرحيته جثة علي الرصيف . فكر بالانسان المثقف المتعلم الذي يقتله رجال الجهل العابث الذين لا يفهمون الرجولة سوي تسلط وقسوة وتهور، كما في مسرحيته عندما يلعب الرجال . فكر بتجار المديح والموالي وصناع المناصب فصاغ كنايته الجميلة عن الكرسي في مسرحيته لعبة الدبابيس .
فكر بالمقاومة وكيف ينبغي أن تتخلص من أمراضها الاجتماعية والسلطوية كي تولد ولادة سليمة فكتب مسرحيته فصد الدم . فكر بسلبية الناس وخوفهم من السلطة ومداراتها فكتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان . هي بدايات، صحيح أنها قصيرة، لكنها تبرز الي أيّ حدّ كان طموح سعد الله بأن يتمثل القلق الانساني بشموليته، بعيداً عن آنية السياسي وتعسفه، بأن يتمثل تلك الرؤي التي تحاول كشف هشاشة الانسان واغترابه، وشعوره بالضعف أمام القوي التي تهدد كينونته: الآلة، الزمن، الارث الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والسلطوي... ومن الطبيعي أن يأتي مثل هذا التمثل انزياحاً لغوياً لاعتبارات آنفة، انزياحاً هو أقرب الي القصة الحوارية منه الي الفعل المسرحي.
وبالطبع كذلك لم يأت هذا القول حكماً سلبياً طالما أن سعد الله كان قد صرح به في مقدمة مسرحيته ميدوزا تحدق في الحياة أولي مسرحياته المنشورة، انه توصيف لاهتمام الكاتب الشاب، لعشقه اللغوي، ولشغله علي اللغة طيلة حياته الابداعية باعتبارها الحامل الأول لمسرحياته دون أن يعني ذلك اغفالاً لاستقلالية المسرح كفن ينبغي تمثيله. علي أية حال تتضح أهمية هذه المسرحيات القصيرة تاريخياً أو بالأحري كتأريخ لابداع كاتبها من جهتين: الأولي أنها تبرز مقدرة سعد الله علي صوغ حكاية ـ أو استعارتها ـ في قالب مسرحي. والثانية أهمية الأفكار التي يتصدي لها وعمقها في كشف معاناة الانسان ولا سيما ما هو جوهري في كينونته.
اضافة الي هاتين الناحيتين تمتاز حكاية جوقة التماثيل بأنها المسرحية الأولي التي منحت سعد الله ونوس لقب الكاتب المسرحي ـ كما أري ـ فهي بحكايتيها: بائع الدبس الفقير و الرسول المجهول في مأتم انتيغونا تبدو وكأنها تتويج ابداعي لمرحلة البدايات، فهي علي الأقل تشي بالتركيبة الفنية التي ستظهر فيما بعد في أكثر من مسرحية وعلي أكثر من شكل، وهي بالأصل لم تغب عن سردياته المسرحية عبر هذا المزج الأدبي بين ما هو سردي وحواري بمهارة توضح مقدرة أو موهبة أصيلة في كيفية الحكي وتمثله بأساليب الكتابة والعرض معاً.
اذن في حكايا جوقة التماثيل يستمر سعد الله بانزياحاته اللغوية، ولكن باضافة بعد مسرحي تقليدي يتمثل باستعادة أو بمساءلة المسرح اليوناني علي وجه الدقة وما يمثله من قيم فلسفية وسياسية كانت الجوقة هي من تقوم بدورها في المسرحيات الاغريقية المعروفة. هذا الضمير الجمعي للحق والخير والجمال الذي انهار مثالاً وراء الآخر أمام بؤس الواقع وسلطاته القمعية في حكاية بائع الدبس الفقير لينحل ويتلاشي تماماً في المكان ذاته ولكن عبر الحكاية الثانية الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا لا تمثل بموتها موت المثل والقيم المشار اليها وحسب وانما تؤكد علي أنّ للمسرح في زمن الكاتب ومكانه دوراً آخر يختلف تماماً عن دوره في أيام ازدهار الديمقراطية الأولي وازدهار التساؤلات الكبري للذات الانسانية عن العدالة والحق والشر والعقاب، تساؤلات بقيت مطروحة في هذه الحكايا وبانزياح شعري يتمثل باضمحلال الشر ذاتياً ليعود بفكرة القدر القديمة من المسرح الاغريقي ذاته. لكن ما هو أهم في هذه المسرحية أكثر من غيره أنها استطاعت أن تركب بين زمنين مسرحيين متباينين: الأول هو الزمن الاغريقي القديم، والثاني هو الزمن العربي المعاصر، ليسائل أحدهما الآخر في مسرحية واحدة هي بائع الدبس الفقير أو الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا ، ولتجعل في مكان الحكي في الوقت نفسه قابلاً لحكايات متعددة هي حكايات العالم أو الانسانية مطلقاً. وعلي هذا لا يبدو سعد الله في هذه المرحلة مهتماً بانشاء مسرح عربي أو حتي التفكير بذلك طالما أن ما يعاني منه هو نتيجة لامتداد تاريخ انساني متكامل، ولصراع تعيشه البشرية جمعاء بما ينفي أية خصوصية تاريخية سوي خصوصية المؤلف وطبيعة كتابته الأدبية. ـ 2 ـ مواجهة الواقع المتخلف بثقافة حداثوية متحررة كانت شغل المبدعين العرب في القرن العشرين، ولكن من غير أن يمتلكوا أدوات التغيير فيه، لأقل الأدوات الابداعية لذلك. وهذا ما يمكن ملاحظته في بدايات سعد الله أيضاً، اذ ثمة غربة تقترب كثيراً من قراءة الحكايات الأجنبية المترجمة حتي في مسرحيته حكايا جوقة التماثيل كان لحضور البعد الاغريقي أثر مُخِلّ في تناول المشاكل المحلية أكثر مما هو مخلخل لها ـ هذه المرة سوف يتم تجاوزه حتي في المسرحيات المقتبسة كما هو آت ـ لكن ليكن الحديث عن تحول أساسي بعد هزيمة حزيران (يونيو) التي أرخ لها سعد الله في مسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل 5 حزيران حيث المسرح بدأ يستجيب للواقع ويدخل في تركيبه الذهني والفني بطريقة يمكن الحديث من خلالها عن تمثل عربي لهذا الفن الوافد الينا مؤخراً، بما يزيد بقليل عن قرن من الزمن. لكن قبل ذلك، وفي هذه المسرحية بالذات، أودّ التوقف عند رؤية سوف تلازم سعد الله فيما سيكتبه لاحقاً وربما هي ما أفضت الي مسرحيات أخري تلامس ما أتحدث عنه بل وتتطور عنه برؤية واضحة لابداع مسرح مختلف وأكاد أقول محليا. غير أن هذه الفكرة الأساسية التي ينبغي البدء بها بعبارة أدق تتحدث عن تركيب رؤيوي للفعل المسرحي يتجاوب وفعل القول بما هو الواقع أيضاً. بمعني آخر ان ادخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية هو حاجة فعلية لقولها، وليس رؤية فنية مستعارة من التغريب البريختي مثلاً، وهذه الحاجة نفسها هي ما دفعت سعد الله للابتعاد عن لغته الانشائية من أجل الاقتراب من لغة تتواءم والفعل المسرحي بعد أن كانت تحاول الانابة عنه. وهي بالتالي أصبحت لغة متعددة بتعدد شخصيات هذا الفعل وتباين مستوياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، وبالتالي قد لا تبرز أهمية مسرحية مثل حفلة سمر من أجل 5 حزيران في تصديها للهزيمة وتداعياتها ـ فهي لم تقل شيئاً جديداً يمكن فعله سوي اشراك الجماهير حقيقة في العمل السياسي وهذا ما لم يتحقق حتي في المسرح ـ بقدر ما تبرز في كونها شكلت حافزاً للبحث عن أشكال جديدة للفرجة ليس من الضروري أن يكون متعارفاً عليها عالمياً. لكن كيلا يبدو هذا البحث رؤية فنية وحسب يعود سعد الله الي كيفية هذه التركيبة وليس الي الرؤية اليونانية التي أظهر فشل محاكاتها عربياً ليصغي الي الحكاية العربية بل والي كيفية حكايتها ليكتب مسرحيته مغامرة رأس المملوك جابر اذ وكما هو معروف أن كرسي الحكواتي هو أول شكل من أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول ما يروي، هي ما أغرت سعد الله بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح السياسي الذي جاء عفوياً ربما في مسرحيته السابقة حفلة سمر ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه المسرحية، في تركيبها بين زمن الحكي القديم وزمن الاصغاء الجديد من جهة، وحكاية سعد الله للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري.
ذات التركيبة ينشئها سعد الله في مسرحيته التالية سهرة مع أبي خليل القباني ليؤكد اهتمامه بأشكال الفرجة العربية، ولكن ليظهر، هذه المرة، الولادة العسيرة للمسرح العربي في سورية، لاستقبال هذا المسرح بكثير من الحذر والريبة، ومن ثم المواجهة بين أبي خليل القباني وقوي التخلف في المجتمع العربي بما فيها القوي الفنية التي انتصرت لأشكال الفن القديمة كمسرح الظل والفنون الدينية. أما أهمية هذه المسرحية فربما تعود أساساً الي كونها عززت رؤية سعد الله للمسرح العربي الجديد أو السياسي كما يحلو له أن يسميه، وأوصلتها الي ذروة الحلم أو امكانيته وذلك باستنفاذ أشكال الواقع وتطلعه الي صيغ جديدة للحوار كان نتيجتها حرق مسرح القباني في النهاية!. ما يمكن قوله بهذا الصدد ان رغبة سعد الله في إنشاء مسرح ديمقراطي عربي في مسرحياته المتتالية حفلة سمر من أجل 5 حزيران و مغامرة رأس المملوك جابر و سهرة مع أبي خليل القباني علي أنقاض ديمقراطية المسرح الاغريقي القديم كما يمكن الاستنتاج سطحياً بالمقارنة مع مسرحيته السابقة حكايا جوقة التماثيل انما هي رغبة استفاد منها المسرح العربي فنياً ربما، أقصد بتوظيف أشكال الفرجة المحلية لكسر الحاجز التقليدي بين مكان العرض ومكان التفرج بأسلوب يتجاوب وطبيعة الكتابة المسرحية أو طقسها المتعارف عليه في تراث الحكي العربي، لكنها فشلت في المقــابل أن تحقـــق غايتها أو هدفها في خلق تقاليد لذلك، وقد يكون الواقع السياسي المستبد من أهم الأسباب التي أعاقت سعد الله في ابداع أشكال اخراجية غير تلك التي سمع بها أو رآها، هي ذات الأسباب التي عاني منها أبو خليل القباني ولكن بتجليات أكثر خفاء.
هذا الوعي بالهزيمة، بعدم قابلية العرب للحوار، وبالتالي للمسرح، هو ما دفع سعد الله للارتداد الي دوره الأساس، دور الكاتب الذي ينظر الي عالم علي أنه مسرح ينبغي كشف لعبته، لعبته السياسية التي لم تزل ملحة بشكلها التقليدي ولكن خارج الأطر المحددة للنزعات السلطوية بمختلف ايديولوجياتها التي أفشلت مسرحه أو أجبرته علي الانكماش ولو الي حين، أقصد السلطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير الحاكمة بالضرورة والتي تملك منصباً علي أتباعها هو ذات المنصب الذي يشغله ملك في مكان وزمان غير محددين ليدل علي تشابه السلطات الاستبدادية مهما كان شكلها. وعلي الأرجح هذا ما أراده سعد الله أو ما فهمته من عنوان مسرحيته الملك هو الملك التي تخلت عن محلية الحكي والفرجة لصالح فكرة تصلح لأي واقع يعاني استبداداً ما. لكن كشف الاستبداد، فهم طبيعته، ارتكاس معرفي يفرضه واقع عاجز عن الحراك أو التجاوب ونخبته، بمعني أنه واقع عاجز عن تأريخ حداثوي له. ولذلك بدت هذه المسرحية تقليدية في بنائها وفرجتها اذا ما قورنت بالتطور المفترض عن المسرحيات السابقة لها، لولا أنها برهنت، مع ذلك، علي غني تجربة سعد الله واغتنائها بمقومات مسرحية يمكن اعتمادها في أية كتابة قادمة كتهيئة سردية لأدبية كان قد بدأ حياته الابداعية بها. ـ 3 ـ لا أعرف حقيقة ان كان سعد الله علي دراية بفشل امكانية الحوار في مجتمع غير متكافئ القوي، أو غير قادر علي انتاج بنية للتكافؤ في أية مرحلة من مراحله التاريخية يمكن الحوار من خلالها حين توقف عن البحث الابداعي لأشكال المسرح في المجتمع العربي، محاولاً أن يستعير صيغا جديدة للكتابة من أقلام كتاب انتصرت مجتمعاتها حداثوياً لتريحه قليلاً من شبح السلطة بمفهومها السياسي الفظ والمباشر علّه يستحث الجماهير التي حاول الانتصار لها علي أن تفعل شيئاً، أن تنظر الي ما حولها، أن تفكر فيما تعيشه، أن تنفض عنها غبار الغفلة والدردشة لتري ما يمكن فعله قبل أن تسلب كل ما تملك وترمي كنفاية الي طرقات التشرد والموت، فيجد في مسرحية كيف تخلص السيد موكينبوت من آلامه للكاتب بيتر فايس صيغة ملائمة لذلك، يستطيع أن يكتب اعتماداً علي حكايتها مسرحيته رحلة حنظلة من الغفلة الي اليقظة ليعود بالمسرح الي بساطة القول اذا لم يكن الي سطحيته اذ ماذا يعني أن نعرف ما يدور حولنا طالما أنه لا يمكن أن نفعل حياله شيئاً؟، سؤال تبدو اجابة سعد الله عليه أكثر سلبية في مسرحية لاحقة. لكن ما هو ايجابي في هذه المسرحية أنها تحررت قليلاً من مفهوم السلطة الفردية لتوزعه علي شكل بنية اجتماعية واقتصادية أكثر مما هو حالة سياسية آنية، ليقترب بذلك من ملامسة الأزمة لكن بلا أطراف يمكن محاورتها بما يشكل تراجعاً ملحوظاً حتي عن مسرحه السياسي والاكتفاء تماماً بدور الراوي الذي يستطيع أن يلتقط تفاصيل الواقع ويسردها كما هي.
لكن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية أواخر القرن الماضي يجد سعد الله نفسه في موقف محرج، فالواقع العربي ليس علي هذا النحو من السلبية وانما أدوات مبدعيه كانت عاجزة علي ما يبدو عن صياغة فعل مماثل لهذا التحرك العفوي بل هي سارت به الي ما يشبه زهوة الفرسان لتقضي عليه قبل ولادته. وربما لهذا استشرف سعد الله نهاية كارثية لا تحتملها حكاية الفارس ولا حتي وضوح الصراع وبدائيته فلجأ الي التواء المثقف وأزماته فاستعاد حكاية القصة المزدوجة للدكتور بالمي للكاتب المسرحي انطونيو بويرويانيجو ليكتب مسرحيته الاغتصاب التي شرح من خلالها الصراع العربي الاسرائيلي علي أساس عقد نفسية سادية علي الأغلب، ربما يكون الشفاء منه سريرياً أكثر منه سياسياً ليخلص الي هذه النتيجة التي تدعو للدعابة وتتلخص في أن الحوار بين الاسرائيليين والعرب أو الفلسطينيين لا يمكن أن يتم الا بين شرائح المثقفين وقد تخلّوا عن هواياتهم القومية والدينية! ما يؤسف له أيضاً في هذه المسرحية أن امكانية الحوار الذي تفترضه لم يكن بين العرب أنفسهم، وانما مع وافدين من ديمقراطيات أخري، وربما هذا يفسر انضواء كثير من المثقفين والمبدعين العرب تحت اشراف منظمات وقوي ـ علي الأقل سلطاتها هي من تصوغ الواقع العربي منذ اتفاقية سايكس بيكو وأشباهها من الاتفاقيات والمشاريع التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
ما أريد قوله ان سعد الله، شأنه شأن العرب جميعاً حتي المبدعين الفلسطينيين منهم، لم يستطع أن يتجاوب والمرحلة التاريخية لشعب وجد نفسه لم يعد يحتمل بؤسه وشقاءه فتمرّد علي شرطه التاريخي ليكتشف أنه وحيد ولا أحد قادر علي الانتصار له في هذه المسرحية سوي محاولة أدبية ربما تذكر بأدب القسوة في القرن التاسع عشر. لكن كيلا أحمل سعد الله ما لا طاقة له به يمكن القول: انه ومن خلال هاتين المسرحيتين استطاع أن يؤكد علي كونية المسرح باعتباره فناً مثله مثل الموسيقي والرسم أو أدباً مثله مثل الشعر والرواية فهو ان كان قد استعار شكلهما المسرحي من لغات أخري الا أنه بكتابته الأدبية عرف كيف يجعلهما عربيتين لغة ووقائع، وهذا لا يعني بالضرورة غلق الباب أمام احتمالات مسرحية لها خصوصيتها المحلية. ہ كاتب من سورية 4 ـ
اطمأن سعد الله في السنوات الأخيرة من حياته الي ما يشبه الواقعية النقدية أو حتي الوصفية فيما يكتبه من مسرحيات، مكتفياً بدور الراوي لأحداث ووقائع يعيشها أو يعايشها في محيطه الاجتماعي، موائماً هذه المرة بين المسرحية والرواية ولكن بعد أن تخلصت لغته من انشائية البدايات وانزياحاتها. وربما يكون توصيف هذه المرحلة الختامية من مؤلفاته بالروايات المسرحية أقرب الي الدقة، وهو توصيف قد لا يملك قيمة معيارية علي أساس أن الكتابة الحديثة كثيراً ما جمعت بين عدة أجناس أدبية وفنية بل كثيراً ما أعدت الروايات مسرحياً لتعرض علي الخشبة بل ان أعمال سعد الله الأخيرة تتضمن هذا الاحتمال الفني لامكانيات الشاشة السينمائية أو التلفازية كفضاء عرض، ومع ذلك لا ينبغي أن ينكر المرء هذه المتعة التي يمكن تحصيلها من قراءة هذه الأعمال وهي متعة أدبية، تشبه ما يجنيه المرء من قراءة الروايات الأدبية المحضة، وهذا شيء لصالح ما يكتبه سعد الله بالتأكيد، بل أعتقد أن هذا الشيء هو ما جعل عمله علي هذا النحو من الأهمية، اضافة الي هذه الجرأة في تناول الواقع نقدياً بوقائعه وشخوصه المعاشة حتي أن أولي هذه الروايات تأخذ عنواناً مباشراً للدلالة علي راهنية ما تتحدث عنه، وأقصد بها مسرحيته يوم من زماننا ..
يبين سعد الله من خلال هذه المسرحية أحد جوانب الفساد في المجتمع وهو جانب الدعارة، ليس بجانبه الوجودي كعلاقة اعتبارية بين الرجل والمرأة وان حصل ذلك كنتيجة وانما في تدخلها في عمل المؤسسات كرشوة أو كمصيدة لمحاربة النزاهة وما الي ذلك، وفي تفشيها بين شرائح الفقراء كمحاولة لتحسين ظروفهم وما يتبع ذلك من مشاكل أخلاقية تطال حتي الرموز الدينية ليؤدي في المحصلة الي هزيمة أبرز المعاني الانسانية التي تربط الرجل بالمرأة وهو الحب الذي ينسحب ممثلوه من الحياة دون أدني مقاومة وكأن قدراً محتماً لا مهرب منه سوف يقضي علي أيّ عاشقين يرغبان في إعلاء شأن الحب أو يحاولان احياءه بل ما هو أشد غرابة من ذلك أن هذا القدر الذي يتمثل بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، سوف يأخذ، وعلي النقيض من منظومة سعد الله العلمانية أو الحداثوية، بعداً طهرانياً يبدو الحب فيه وكأنه خطيئة ينبغي أن يحاسب عليها أيّ عاشق أو عاشقة يقترفانها بعيداً عن المؤسسة الزوجية واستمرارها ليس انتصاراً للقوة الذكورية المتحكمة في المجتمع ولكن كنتيجة حتمية لهيمنة هذه القوة ونفي أيّة امكانية للتغلب عليها كما هي الحال في مسرحيته أحلام شقية ، لكن فهم القدرية باعتبارها شرطاً تاريخياً قد لا يسوغ اعتبار الحب خطيئة ينبغي التطهر منها، بل ما هو أنكي من هذا الفهم أن سعد الله يتبني هذه القدرية الطهرانية في مسرحيته الأيام المخمورة حتي بعد أن تخلص العاشقان من شرطهما التاريخي المتخلف.
أيضاً استحوذت العلاقة بين المرأة والرجل علي تفكير سعد الله في مسرحيته طقوس الاشارات والتحولات ولكن برؤية أكثر حراكاً من المسرحيات السابقة علي الرغم من أنها مستمدة من تاريخ العرب ما قبل النهضوي، وهي مسرحية تحاول، اذا ما أمعنت التفسير في احتمالاتها، أن توضح أهمية الاهتمام بثقافة الجسد، بطاقاته الفنية كالرقص مثلاً، باعتباره حاجة طبيعية ينبغي أنسنتها بعيداً عن طقوس الاسراف أو الزهد في التعامل مع حاجات الانسان الأساسية ومنها الجنس، والا راوح المجتمع في الدوران حول حلقة المحرم والعصيان المستتر و فيها، ولكن سعد الله رصد هذه الحلقة عبر ظاهرتين معاكستين: الأولي هي ممارسة السادة الرجال للجنس مع خادماتهن قبل بلوغهن وتحويلهن بالتالي الي عاهرات يعترف المجتمع بشرعية وجودهنّ في وسطه، والثانية هي المكاشفة في العلاقات الجنسية المشبوهة حتي الشاذة منها لاتخاذ هؤلاء السادة من الغلمان مناهل جنسية، ولكن بما يكفل التراتبية الاجتماعية بين السادة والخدم أو العاهرات من جهة والهيمنة الذكورية من جهة أخري.
لكنّ المسرحية تفترض اختراقاً لهذه التراتبية كأن تقوم امرأة من السادة ـ وتحت رغبة عارمة لجسدها بالانطلاق والتحرر لم تشبعها بزواجها من رجل سيد اعتاد معاشرة العاهرات هو نقيب الأشراف ـ بالتحول من امرأة سيدة الي غانية أو عاهرة تبيع جسدها، ملبيّةً بذلك أصداء أصوات عاشتها من خلال اغتصاب أبيها وأخوتها الذكور للخادمات في حرمة البيت الذي ولدت وتربت فيه، مع ملاحظة أن هذه المرأة أبدت رغبة في الرقص أكثر من الجنس لتسويغ تحولها هذا، ولكن ماذا تفعل اذا ما ارتبط الرقص بالعهر في مجتمعها؟ طبعاً هذا المجتمع سوف يتصدي لهذه الظاهرة الجديدة بالمفهوم الطهراني ذاته فيتم اصدار فتوي بتحريم البغاء لتقتل المرأة علي يد شقيقها الأصغر بينما يقتل زوجها شهوات جسده عن طريق الزهد والتصوف. فتكتمل بذلك حالة الفصام الشرقي بين ما هو ظاهر وما هو مخفيّ، بين تقشف الروح وشهوانية الجسد، بين حلال الرجل وحرام المرأة...أفكار مرتبكة ومربكة لا تؤسس الا لحكايتها التي تحاكي واقعاً تدعي أنها تنقده، كأن سعد الله دخل حقاً نفقاً مظلماً لا نهاية لالتواءاته وتعرجاته.
آخر هذه الالتواءات كانت مسرحيته ملحمة السراب التي تقوم بدورها علي ثنائية اقتصادية حادة التناقض بين انفتاح اقتصادي هو بطبيعته يفتح المجال أمام متع الحياة وأفراحها والواقع المتخلف والفقير الذي يرتضي من الحياة أغانيها، وعلي ما يبدو أن سعد الله ينحاز الي الواقع الثاني للحفاظ علي الحياة الريفية ببساطتها وبمعانيها عن الحب والأسرة والأرض باتخاذه لموقف مسبق من المشروع السياحي الذي يقيمه رجل يصفه سعد الله بالغاوي الذي يتبع شيطانه، متناسياً ربما أن العمل السياحي هو نتاج حداثوي، وليس بالضرورة أن يلغي الحب أو الأغنيات القديمة، وان كان يساعد بما يوفره من غني وتنوع علي مكاشفة الانسان لرغباته وتطلعاته والخوض في هذا أري أنه يحتاج الي وعي أعمق بالوجود لا يبدو أنه كان متوافراً لدي شخصيات مسرحيته التي انقسمت بين مقبل بشراهة علي هذا المشروع وما يتيحه من متع عديدة وزاهد به وبالحياة كلها، بل أن يحتال هذا الغاوي علي رجال القرية في النهاية أمر لا يفند أهمية قيام مثل هذا المشروع، فضلاً عن أن الذاكرة العربية عبر تاريخ حضارتها الواسع مؤسسة علي الانفتاح الذي يمكن وصفه اليوم بالسياحي، لكن يمكن القول: ان الفساد المتفشي في مؤسسات المجتمع ومعاملات الناس فيما بينهم حتي التجارية والصناعية منها بغياب قانون يعطي لكل ذي حق حقه قد يبرز سلبية التطلعات الحداثوية وخاصة اذا ما تمثلت بالمظاهر المتعوية التي تحتاج الي منظومة من التفكير حرّة أو متحررة، وربما هذا ما انعكس علي أوليات سعد الله وتفكيره فيما يكتبه اما بنزوع مقاوم قد لا يصلح لمجتمع هو شره بتكوينه وان يبدي غير ذلك كعادته، واما بنزوع نقدي يستطيع أن يعي مواطن الضعف والهزيمة ولكن بلا رؤية ابداعية واضحة يمكن أن تحرض علي فعل مغاير ومختلف، وربما هو فعل يحتاج الي وعي أكثر امتداداً من الواقع الضيق الذي خاض آلامه واخفاقات أحلامه.
وعلي هذا الأساس شكلت مسرحيته منمنمات تاريخية استجابة لهزيمة الواقع أكثر من رغبة في تخطيها، وهي ان كانت تحمل في معظم مستوياتها عرضاً لأشكال الهزيمة كما هي أعماله الأخري بما لا يدعو الي مزيد من التفكر، الا أنّ سؤالها أو امتحانها للمثقف أو العالم ربما قد جاء سؤالاً نافلاً وربما في غير محله علي اعتبار أن مفكراً وعالماً مثل ابن خلدون يتمثل منظومة فكرية لم يُستنفذ قولها ومفعوله وحسب بل هي بشموليتها وبراغماتيتها قد لا تصغي كثيراً الي ما يصغي اليه سعد الله عن أخلاقية القول ودلالة ما يفعله قائله، بمعني أن أهمية ابن خلدون تكمن في أنه استطاع أن يكتشف علماً كان يستطيع العرب الافادة منه لو أرادوا بينما تتباكي مسرحية مثل منمنمات تاريخية علي ما حصل للعرب وعلي ما يحصل لهم ولم يكن بوسع ابن خلدون أن يرده لو ترك قلمه وامتشق سيفاً ليموت داخل أسوار دمشق أو قلعتها، أما أن تحتاج الشعوب الي مواقف مفكريها ومبدعيها فهذا قد لا يعني شيئاً مهماً طالما أن صحة المواقف قد لا تعني صحة السبل والطرق التي يمكن أن توصل الشعوب الي تحقيق طموحاتها، وما لدي ابن خلدون هو علم يحتاج الي القوة لكي يؤكده وانما كانت خيانته نتيجة لخيانة الواقع لأفكاره، وهذا لا يسوغ شيئاً بقدر ما يوضحه. هل أوضح سعد الله ونوس الواقع؟ ربما أوضح واقعاً مهزوماً فاته أن يعرف كيف يصوغ أسئلته.

---------------------------------------------
منقول